موقع أ.د مصطفى مسلم
الموقع الرسمي لفضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم

من أخلاق النبوة

شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.

لقد أدب الله تعالى حبيبه وصفيه صلى الله عليه وسلم، فكان كثير الضراعة والابتهال إلى الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، فكان يقول في دعائه: “اللهم حسن خلقي وخلقي”[1] ويقول: “اللهم جنبني منكرات الأخلاق”[2]، فاستجاب الله دعاءه وأنزل عليه القرآن، فأدبه بكثير من التأديبات التي لا تحصر فكان خلقه القرآن، لقد أدبه الله تعالى بالقرآن وأدب الخلق به عليه الصلاة والسلام ولذلك قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”[3] وفي كثير من الأحاديث النبوية رغب الخلق في محاسن الأخلاق.

وبعد أن أكمل الله تعالى خلقه أثنى عليه فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

ولعل أحسن ما يفسر هذا الخلق العظيم ما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت حينما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان خلقه القرآن[4].

وقد أورد ابن كثير عدة روايات عن الأئمة أحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم وكلها تفيد أن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها حينما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت لسائلها: أتقرأ القرآن فأجاب بنعم فقالت كان خلقه القرآن[5].

ويذكر الدكتور عبدالحليم محمود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمثل القرآن الكريم، وكان تطبيقاً للقرآن، لقد لبس القرآن ظاهراً وباطناً لقد “تقرأن” إذا أمكن هذا التعبير – أو بتعبير آخر – لقد كان قرآناً، حيث امتزج بالقرآن روحاً وقلباً وجسماً وامتزج القرآن به عقيدة وأخلاقاً وتشريعاً فكان صلوات الله وسلامه عليه قرآناً يسير في الناس وكان القرآن روحاً ينتقل، وكان قلباً ينبض، وكان لساناً ينطق بالهداية والإرشاد[6].

ويذهب الإمام الماوردي إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مهيَّأً لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال، ومؤهلاً لأعلى المنازل وأفضل الأعمال لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها ووافقها، وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى وعباده، تبعث على مصالح الخلق وطاعة الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخص، وأكملهم بشروطها أحق بها وأمس، ولم يكن في عصر الرسول وما دانى طرفيه من قاربه في فضله ولا داناه في كماله خلقاً وخُلُقاً وقولاً وفعلاً وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم -وحده- هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة.. إنه – وحده – هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني، إنه – وحده – هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية، حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان إنه – وحده – الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام. والله أعلم حيث يجعل رسالته – فأعلن أنه على خلق عظيم[7].

وقد أدبه ربه إذ قال: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، ولا شك أن هذه الآية تحتوي على مجموعة من الأخلاق الكريمة، بل إن الإمام جعفر الصادق يذكر أن الله أمر نبيه بمكارم الأخلاق وأنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية[8].

فقد تضمنت هذه الآية المكونة من ثلاث كلمات، قواعد الشريعة في المأمورات، والمنهيات، حتى لم يبق حسنة إلا أوضحتها، ولا فضيلة إلا شرحتها، ولا أكرومة إلا افتتحتها، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة:

فقوله: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾ تولى بالبيان جانب اللين، ونفى الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف، وقوله: ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ تناول جانب المأمورات والمنهيات، وإنهما ما عرف حكمه، واستقر في الشريعة موضعه، واتفقت القلوب على علمه، وقوله ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ تناول جانب الصفح بالصبر الذي به يتأتى للعبد كل مراد في نفسه وغيره، ولو شرحنا ذلك على التفصيل كما قال ابن العربي لكان أسفاراً[9].

وروى البخاري عن عبدالله بن الزبير أنه قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس وروى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ما هذا؟” فقال لا أدري حتى أسأل العالم وفي رواية (لا أدري حتى أسأل ربي) فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.

وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى في قوله:

مكارم الأخلاق في ثلاثة
من كملت فيه فذلك الفتى[10]
إعطاء من يحرمه ووصل من
يقطعه والعفو عمن اعتدى

وإذا كان العلماء قد حاولوا باجتهاداتهم أن يتصوروا وصف الحق سبحانه لرسوله الكريم بأنه على خلق عظيم، فإن محاولاتهم ستبقى دون ما يريده الله العظيم لرسوله ذي الخلق العظيم، ولن يصلوا ببشريتهم إلى حقيقة هذا الوصف وتصور ذلك الخلق وتلك العظمة.

ويذكر الأستاذ سيد قطب أن أرجاء الوجود تتجاوب بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله يقول له فيها: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين![11].

ويذكر أن دلالة هذه الكلمة العظيمة، على عظمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تبرز من نواحٍ شتى:

تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، ويسجلها ضمير الكون وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله، وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتلقيها، وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة، ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته، ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين[12].

ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه، ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر، أعظم بصدورها عن العلي الكبير، وأعظم بتلقي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما هو يعلم من هو العلي الكبير، وبقائه بعدها ثابتاً راسخاً مطمئناً لا يتكبر على العباد ولا ينتفخ ولا يتعاظم وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير![13].


[1] قال العراقي على هامش كتاب الإحياء رواه أحمد من حديث ابن مسعود وحديث عائشة ولفظهما “اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي” وإسنادهما جيد، وفي مجمع الزوائد 8/20، وقال رجال أحمد رجال الصحيح.

[2] رواه الحاكم في المستدرك (1949) وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

[3] رواه البيهقي في السنن الكبرى 10 /191، مجمع الزوائد 8 /188، باب مكارم الأخلاق وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

[4] صحيح ابن خزيمة (1127) 2 /171، ورواه أحمد (24645) 6 /91.

[5] تفسير القرآن العظيم، ج4، ص402، راجع سنن ابن ماجه، باب (14) كتاب الأحكام (13) حديث رقم 2333 تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر دار الحديث وفيصل عيسى الحلبي، راجع أيضاً سنن أبي داود في باب صلاة الليل من كتاب الصلاة، حديث رقم 1342، تحقيق الشيح محمد محي الدين عبدالحميد نشر دار الكتب العلمية بيروت.

[6] الرسول صلى الله عليه وسلم: ص6، 7، نشر دار التراث العربي القاهرة.

[7] سيد قطب: في ظلال القرآن المجلد السادس، ج29، ص3657، دار الشروق، الطبعة العاشرة، 1982م.

[8] تفسير الفخر الرازي، ج15، ص96، تفسير النيسابوري على هامش الطبري، ج9، ص99.

[9] أحكام القرآن، ج2، ص826، تحقيق علي محمد البجاوي، نشر دار الجيل بيروت، 1407هـ-1987م.

[10] راجع تفسير ابن كثير، ج2، ص277، تفسير القرطبي ج7، ص345.

[11] في ظلال القرآن، ج29، ص3656.

[12] المصدر السابق.

[13] المصدر السابق.

 

قد يعجبك ايضا