موقع أ.د مصطفى مسلم
الموقع الرسمي لفضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم

مع القرآن في عالمه الرحيب

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُ به ونسترشدُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يَهدِه الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجدَ له وليًّا مرشدًا، وأصلي وأسلم على سيدنا محمدٍ المبعوث رحمة للعالمين، ورضي الله عن الآل والصَّحب الكرام، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

• ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

 

أما بعد:

فيا أيها الأخوة، أسألُ اللهَ العليَّ القدير أن يجعلني وإياكم ممن تتنزَّلُ عليهم السكينة وتغشاهم رحمة الله، وتَحفهم الملائكة، فقد رَوَى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله، يتلون كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشِيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذَكَرهم الله فيمَن عنده)).

 

ونحن نلتقي اليوم على مائدة القرآن، وفي عالمه الرحيب؛ لنتدارسَ بعض مزاياه، وشيئًا من خصائصه، وطرفًا من هداياته، ولفتاتٍ من إعجازه.

لقد نزلَ القرآنُ على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والشرك والتخلف إلى نور العلم والتوحيد والحضارة والتقدم.

 

جاء ليكوِّن أمة من قبائل تتناحر على الكلأ والمرعى، وعلى الأخذ بالثأر، والتنافس على المصالح الفردية والقبلية… إلى أمة تتولَّى قيادة البشرية في الفكر والحضارة والتقدم العلمي… من قبائلَ تتولَّى حراسة قوافل تجارة الفرس والروم لقاءَ دُريهماتٍ إلى أمة تَهز العرش، وتُزيل دُولًا، وتَحوي تحت أجنحتها دولًا أخرى.

 

لقد كوَّن القرآنُ أمةَ الإسلام ودولةَ الإسلام، والحضارةَ الإسلامية؛ “أمة الله لتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومِن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومِن ضِيق الدنيا إلى سَعتها”.

 

لقد كان القرآنُ منطلقَ الرعيل الأول في كلِّ شيءٍ:

• فهو وسيلة تربيته الروحية وزاده الروحي: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 1 – 6].

 

• والقرآن وسيلة لتبليغ الدعوة إنذارًا:

• ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19].

• ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 91 – 93].

• ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].

• ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].

 

• وفي القرآن تقويمُ المُعوَجِّ ورفعُ الخلاف:

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [النمل: 76].

 

• وهو المحفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

 

وهو الكتابُ الذي لا يقبل العِوَجَ ولا التحريفَ أو التبديلَ، وهو الميزان القويم الذي يُوزن به ما سواه:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ﴾ [الكهف: 1 – 2].

 

• وفي القرآن الزادُ الثقافيُّ والمتعة الفكرية:

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ ﴾ [يوسف: 3].

 

• وفي القرآن الشفاءُ من الأمراض النفسيَّة والروحيَّة، بل الجسديَّة:

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].

 

• وفي القرآن البركةُ والنماءُ…

﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 155].

 

• من عظمة هذا القرآن ورفيع قدره وعظيم أثره:

﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].

﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31].

أي: لو كان هذا القرآنُ أولى من أي كتابٍ آخر، لوجدت العادة أن كتابًا منزلًا يُحدث هذه الآثار العادية في المخلوقات.

 

• والقرآنُ الكنز الذي أُوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُمته، الكنز الذي لا يُقدَّر بثمن:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87].

 

• وبالقرآن مجدُ هذه الأمة ورِفعة شأنها بين الأمم:

﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الزخرف: 43 – 44].

﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].

إن عزَّ المسلمين وعزَّ العرب خاصة، مرتبط بالقرآن الكريم ومدى التزامهم بهداياته.

 

• وفي القرآن الهداية التي لا تَشوبها غَوايةٌ ولا ضلالٌ، وتوصل الناس إلى جنات النعيم:

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].

 

• وفي تلاوة القرآن الأجرُ العظيم والثواب الذي لا يَنفَد:

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 78 – 79].

 

والقرآن معجزة رسول الله التي تتضاءل بجانبها كلُّ الخوارق والمعجزات: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].

﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23 – 24].

 

وقفة مع الإعجاز:

لقد أثار بعضُ الناس إشكالًا:

كيف يَعجِزُ العربُ عن الإتيان بمثل سورة من القرآن؟

• في القرآن علومُ الأولين والآخرين….

﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38].

لقد مضى الرعيلُ الأولُ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على درجة عُليا من التذوُّق البياني للقرآن الكريم، يُحِسُّون إعجازَه وعذوبة أسلوبه، وفخامة عباراته، وجزالة نظمه، وهم يُقرُّون في قرارة نفوسهم – مستسلمين – بأنه كلامُ الله جل جلاله الذي لا يُدانيه كلام البشر.

 

ولكن في القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري، فقَدَ الناسُ حِسَّ التذوق للبيان القرآني، ودخل في الإسلام أناسٌ لهم ثقافات قديمة، والمرء ابن ثقافته، ولم يستطيعوا التخلُّص منها، وتُرجِمت ثقافات شعوب غير إسلامية إلى العربية، ودخلت المجتمع الإسلاميَّ، كلُّ ذلك أدى إلى وجود بعض الناس الذين يفكرون تفكيرًا عقليًّا رياضيًّا جامدًا بعيدًا عن أنوار الوحي وهداياته، فأثاروا هذه المشكلة:

كيف يَعجِزُ العربُ الفصحاءُ البلغاءُ أصحابُ القصائدِ الشعريَّةِ العظيمة، والخطب المحفلية الرائعة، وأرباب السجع الرصين، والأساليب المثنية عن الإتيان بمثل أقصر سورة في القرآن؟!

 

وكما هو معلوم أقصرُ سورة في القرآن هي سورة الكوثر، وهي عشر كلمات: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 1 – 3].

هذا منهجُهم في التفكير: عقل مجرد من أنوار الوحي، فنتج عن هذا المنهج في التفكير: أن قالوا بالصرفة؛ أي: إن الناس صُرِفوا – صرَفهم الله تعالى – عن التوجُّه للمعارضة بسلب الدواعي لقصد المعارضة، أو بسلب العلوم التي يستطيعون بها معارضة القرآن على اختلاف بين فئتين من القائلين بالصرفة.

 

ونحن نضرب مثلًا مقربًا من حياتنا المعاصرة؛ لنستدل من خلاله على عُقم هذا المنهج في التفكير في عصرنا الحاضر، وبعد طغيان العلم المادي والانفجار المعرفي، والتعرف على كثير من أسرار الكون والطبيعة، طغى العلماء فأنكروا وجود الخالق، فقال بعضهم: إن إلهَنا العلمُ ومعبدَنا المختبراتُ، ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6- 7].

وفكَّروا في خلق الإنسان في المختبرات، فدرسوا تكوين الخليَّة الحيَّة، وممَّ تتكون؟ فتعرفوا على نِسَب المواد الأولية فيها، فجعلوها في المختبر، وسَلَّطُوا عليها القوى الكهربائية، وأوجدوا لها البيئة والمناخ المناسب، ولكن المادة بقِيت جامدة.

أَجْرَوْا التجاربَ عشرات، بل مئات، بل ألوف المرات، وتخرج دائمًا مادة جامدة، إلى أن قال قائلهم ألكسيس كاريل في كتابه: “الإنسان ذلك المجهول”: “لو أعطيت بحجم الكرة الأرضية مادةً أوليةً، وأعطيت بمثل طاقة الشمس طاقةً، وبعد مليون سنة يحتمل أن نَصِل إلى خلق الخلية الحيَّة”، وهذا لا شكَّ أنه اعترافٌ بالعجز المطلق.

 

لقد تمثَّل هؤلاء الطاغون عن حقيقة الروح ونفختها في الكائن الحي من الإنسان والحيوان والنبات الذي يقول عنها القرآن العظيم: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].

وينبِّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة، فيقول: ((إن أشدَّ الناس عذابًا يوم القيامة المصوِّرون، يقول الله لهم يوم القيامة: أَحْيُوا ما خلَقتم، ذهبوا يَخلقون كخَلقي، ألا فليَخلقوا حَبة، ألا فليَخلقوا شعيرة…)).

 

ونحن نقول: لو اجتمعت مختبراتُ العالم كلُّها، ومعاملها ومصانعها، على أن يخلقوا حبَّةَ شعير أو بُرٍّ، أو عَدَس، أو فول، أو حِمِّص، فيضعوها في الأرض، فتُنبت وتنمو وتتكاثر – لكان مستحيلًا؛ لأن فيها الروحَ التي هي سر الحياة الذي استأثر الله سبحانه وتعالى بها.

نقول ذلك بين يدي الآية الكريمة: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].

 

أما الدعوة الأولى فهي لخاصة المسلمين وعلمائهم:

ولا بد من مقدمة لهذه الدعوة:

إن القرآن الكريم معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدائمة المستمرة لكل الأجيال إلى يوم القيامة.

• وكلُّ جيلٍ يجد في القرآن الكريم ما يقيم عليهم الحجة من نوع العلوم ومعطيات الحضارة السائدة.

• وفي عصرنا الحالي انتشرت البحوث العلمية في العلوم التجريبيَّة التطبيقيَّة في مجالات الحياة كلها؛ في مجال الفلك، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيات، والطب، وعلم الحيوان، وعلم النبات، والعلوم النفسية… وغيرها.

 

1- نحن في كثير من هذه العلوم الحديثة نتطفل على غير المسلمين، فنسخِّر نتائج بحوثهم للاستدلال من خلالها على إعجاز القرآن الكريم، فنقول مثلًا: إن علماء الفلك اكتشفوا السُّدُمَ الغازية والمجرات، وتكوين المجموعات النجمية… وقد أشار القرآن إلى مثل ذلك كما قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 11 – 12]، ولا نكلِّف أنفسَنا البحثَ عن هذه الحقائق الكونية.

 

2 – ونَغفُل عن حقائق ساقها القرآن الكريم، وردَّ على تخمينات الباحثين الذين يتبعون الظنَّ في خلق السماوات والأرض؛ يقول عز من قائل: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾ [الكهف: 51]، ويقول عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30].

 

3 – وفي مجال العلوم النباتية جاء في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ [يوسف: 47].

إنه مجالٌ بِكْرٌ يدعو الباحثين من المسلمين إلى دراسة خواص السنبلة لحفظ الحب فيها مدة تبلغ أربع عشرة سنة، سبع سنين خصبة تَحفظ المحاصيل في سنبلها، ثم سبع عجاف يأكل من المدخر المخزون في سنبلة؛ أي: إن بعض الإنتاج بقي محفوظًا أربع عشرة سنة.

 

4 – لقد أجرى أحدُ العلماء المسلمين بحثًا حول قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ﴾ [يوسف: 93]، فدرس هذا العالم خواص القميص على ضوء قول يعقوب عليه السلام: ﴿ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]، فتوصل إلى خاصية العَرَق وعلاقته بالغِشاوة البيضاء على العين، عندما قال يعقوب عليه السلام: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84].

 

لقد توصل هذا العالم إلى اكتشاف دواء – قطرة للعين – من مواد موجودة في عَرَق الإنسان، يزيل الغِشاوة البيضاء على العين.

وأخذ على هذا الاختراع براءة من أمريكا وأخرى من أوروبا، ونشر مقالة في ذلك في مجلة الإعجاز التابعة لهيئة الإعجاز العلمي في مكة المكرمة التابعة لرابطة العالم الإسلامي، ونشر صورة البراءتين في المجلة.

 

5 – وعالم آخر أجرى بحوثًا على قوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾، وأثر ذلك على الوقاية من مرض دوالي الساقين.

6 – ومن المجالات التي تحتاج إلى بحث قوله تعالى بخصوص يونس عليه السلام: ﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ [الصافات: 145 – 147]، يقول المفسرون: إن الحكمة من ذكر شجرة اليقطين – وهي القرع والدُّبَّاء – أن لها خاصيَّةً في إبعاد الحشرات والهوام عن الإنسان.

فهلَّا أُجْرِيَت التجارب على مثل ذلك، فقد تُغنينا عن كثير من المبيدات وغيرها.

 

7 – وفي سياق الحديث عن مريم عليها السلام: ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 23 – 26].

يقول المفسرون: لو كان هناك شيءٌ أفضل من الرُّطب للنُّفَساء، لوضعه الله سبحانه وتعالى.

إنها وصفاتٌ طبية، فأين نحن من معرفة خواصِّها، ثم استخدامها في علاجنا؟!

 

8 – وفي الحديث عن سليمان وملكه، عندما أراد أن يُحضر عرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس: ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النحل: 38 – 40].

 

لقد تحقَّقَت السرعة التي كان يريد العِفريت من الجن أن يُحضِرَ بها عرش بلقيس بوسائلنا العصرية بالطائرات (سرعة الصوت)، أما السرعة التي أحضر بها الذي عنده علم من الكتاب – (وهي سرعة الضوء) – فلم تتحقق إلى الآن، ولكنَّ العلمَ قد يصل يومًا إلى نقل الأجسام المادية من مكان إلى آخر بسرعة الضوء، فالآن تنقل الصورة والصوت بسرعة الضوء، أما الجسم المادي فلا.

 

9 – وفي وصف البستانين (الجنتين) في سورة الكهف: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32 – 33].

هل للسياج من النخل حول البستان – من الفاكهة أو الزرع – أثر في الوقاية من الآفات وغيرها؟ يحتاج الأمر إلى دراسة مِن قِبَل المختصين.

 

10 – العلاقة بين الجبال وبين الماء العذب الفُرات: ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ﴾ [المرسلات: 27].

 

11 – بالإضافة إلى الاستشفاء بالعسل: ﴿ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: 69].

وهناك الكثير والكثير من هذه اللفتات في مجالات الكون: الفلك، والبحار، والحيوان، والنبات، والإنسان.

إنها علوم منطلقاتها قرآنية، فمَن لها غيرُ المسلمين المختصين؟! دعوة نوجِّهها إلى المختصين من علماء المسلمين.

 

قد يعجبك ايضا