التفسير الموضوعي وفوائده في الدعوة إلى الله
التفسير الموضوعي وفوائده في الدعوة إلى الله
محاضرة ألقاها أ. د. مصطفى مسلم
في جمعية الإرشاد الاجتماعي بعجمان
بتاريخ 19 ربيع الأول 1425 الموافق 8/ 5/ 2004م
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فإن القرآنَ الكريم منبعُ الهداية، وأساليبه فطرية تلائم المستويات الفكرية والعلمية والنفسية جميعًا.
ومنهج القرآن في الدعوة إلى الله منهج يَجمع بين استجاشة العواطف في الإنسان، وبين إثارة التأمل والتدبر في الكتاب المنزل وآياته، وفي كتاب الكون المفتوح مما يُحِسُّ به من حوله.
• وكثيرًا ما يبدأ القرآن الكريم بالقضايا البدهية التي تدخل في حياة كل إنسان، فمثلًا في قوله تعالى: ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴾ [الواقعة: 57]، قضية توحيد الله وتفرُّده بالخلق، تُساق الأدلة التالية عليها:
1 – ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الواقعة: 58 – 62].
2 – ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [الواقعة: 63 – 67].
3 – ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 68 – 70].
4 – ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 71 – 74].
5 – ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الواقعة: 83 – 87].
هذه القضايا الخمس التي تدخل في حياة كلِّ إنسانٍ، الإنسان الذي يعيش في الغابات وفي الكهوف وفي الصحراء، وكذلك الإنسان الذي يعيش في ناطحات السحاب؛ لأنها محيطة بالإنسان، تدخل في حياته اليومية، فهل يجهل أحد من الناس بساعة ولادة، أو نبتة زرع، أو مسقط ماء ونزول مطر، أو شعلة نار وقدح زِناد، أو لحظة سكرات الموت، ومفارقة الروح.
سبقت هذه القضايا البسيطة التي تحيط بالإنسان للاستدلال من خلالها على عجز الإنسان المطلق؛ حيث لا يستطيع خلق شيء منها، ليتوجه إلى خالقها وموجدها المتفرد في خلقها: ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ﴾ [الواقعة: 57].
إن الدعاة بحاجة إلى تتبُّع الأساليب القرآنية في الإقناع، وإيرادها في الموقف المناسب، فلكل مقام مقالٌ، ويتجنب – بقدر الإمكان – الابتعادَ عن القضايا الفلسفية المجردة، وإنما يربط بين المعقول والمحسوس، فإنَّ النفس تتأثر بالمحسوس المشاهدِ أكثر من الفكرة العقلية المجردة، وتتأثر بالمثلِ والتشبيهِ أكثر من التقريرات الجدلية.
وأمر آخر ينبغي مراعاته في دعوتنا، وهو الربط بين العقائد والمصالح؛ فإن النفس تميل إلى تحقيق المصلحة العاجلة قبل الآجلة، ولا مانع في ذلك، وهو أسلوب قرآني تكرَّر كثيرًا في آياته، فمثلًا نجد في دعوة نوح عليه السلام لقومه، أنه كان يدعو قومه إلى عبادة الله تعالى وحده، وترك عبادة الشركاء، فتارة كان يُخوِّفهم بالعذاب الأخروي، وهي مصلحة آجلة، وتارة يرغبهم بالمصالح الدنيوية العاجلة: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [نوح: 2 – 4] ثم يقول: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 – 12]، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لقريشٍ: (قولوا كلمة واحدة، تَملِكون بها العربَ، وتَدين لكم بها العَجَمُ).
إن المثالية والترفع عن المصالح الدنيوية والعمل للآخرة، نهاية المطاف وغاية المنى، ولكن لا يمكنُ الوصول إليها إلا بالمرور عبر تحقيق المصالح الدنيوية العاجلة، فالإسلام دين واقعي يراعي الجوانبَ المختلفةَ في الإنسان – عقلَه، وروحَه، ونفسَه، وأحوالَه جميعًا، وحالاتِ الضَّعف والفتور، وحالَ الارتقاء والصعود، وحالاتِ الهبوط والانحدار – ليرفعه من خلال التدرج في تربيته إلى مصاف النبيين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
إن تتبُّعَ هذه الأساليبِ من خلال الآيات القرآنية، وجمعَها وترتيبَها واستنطاقَها لأخذ العظات والعبر منها، ليس إلا منهجَ التفسير الموضوعي؛ إذ نحدِّد زاوية أو قضية أو موضوعًا، ندخل من خلاله إلى آيات الذكر الحكيم، ونتتبع المنهج القرآني في عرض حقائقه وأساليب تقريره.
هذا لونٌ من ألوان التفسير الموضوعي، وهو ما نُسميه: (موضوع من خلال القرآن الكريم).
ولون آخر لا يقلُّ أهمية عن اللون الأول، وهو التفسير الموضوعيُّ لسورة من سور القرآن الكريم؛ إذ نختار سورة من سور القرآن الكريم، وبعد الدراسة الكافية الشاملة لِما يحيط بها، نعرض للقضايا التي ذكرت في السورة من خلال مقاطعها التي تقسم السورة إليها، وفي كل مقطع نذكر معنى الآيات التي وردت فيها إجمالًا، ثم نَستنبط من كل مقطعٍ العظاتَ والعبرَ والآدابَ التي وردت في هذا المقطع، ونحاول الربط بينها وبين محور السورة الذي نحدده في البداية، وهي التي نسميها بالمناسبات بين المقاطع والمحور.
نموذج لموضوع من خلال القرآن الكريم
(قبسات من الذكر المبين في سيرة الصادق الأمين)
ونتناوله من خلال ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله وتوقيره في النصوص الكريمة:
1 – النصوص الصريحة في ذلك التوقير:
أ – قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 8 – 9].
ب – قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45 – 46].
2 – النصوص المشتملة على توقيره ضمنًا:
أ – عدم مناداته باسمه: يا محمد، يا أبا القاسم، وإنما مناداته بلقب الرسالة والنبوة؛ يقول عزَّ من قائل: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
ب – عدم مناداته باسمه المجرد:
لقد ذكر اسمُه الصريح في القرآن الكريم أربعَ مرات (محمد) ومرة (أحمد)، ومع كل مرة لقب الرسالة، ولم يناده باسمه المجرد كما نادى نوحًا: ﴿ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ… ﴾ [هود: 48]، وإبراهيم: ﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا… ﴾ [الصافات: 104]، وعيسى: ﴿ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ… ﴾ [المائدة: 116].
• قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ… ﴾ [آل عمران: 144].
• وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40].
• وقال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
• وقال تعالى على لسان عيسى: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].
• وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ [محمد: 2].
جـ – الأدب في مجلسه وعدم تقديم الآراء بحضرته، وعدم رفع الصوت عند الحديث معه؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 1 – 2].
د – تقديم الصدقة بين يدي مناجاته:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 12 – 13].
وهذا الحكم وإن نُسِخَ، لكن بقاء تلاوته يعطي دلالات تربوية وآثارًا نفسية عند كل من يتلوها، لمعرفة مقام النبوة وتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هـ – وصفه بصفة العبوديَّة المضافة إلى نفسه، وفي مقام التشريف والاختصاص.
قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]؛ إذ جمع له أرواح النبيين ليصلي بهم إمامًا في المسجد الأقصى؛ إبرازًا لمكانته وعظيم قدره وفضله، فوصفه بصفة العبودية.
• قال تعالى ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 8 – 18].
حيث ارتقى إلى مقامٍ لم يصل إليه مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل ليكلمه شفاهًا، وأطلعه على ملكوت السموات: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10].
• قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].
• قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23 – 24].
وكذلك سمَّاه عبدَه، وقد كلَّفه بمهمة الرسالة؛ ليكون للعالمين نذيرًا، وعندما أقام الحجة على الإنس والجن وتحدَّاهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن.
• قال تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41].
وسمَّاه عبده يوم النصر الأعظم يوم الفرقان يوم بدر.
لذا كانت العبوديَّةُ أعظمَ صفة تطلق على الإنسان؛ لأنها شهادة من الله تعالى بتحقيقه الغاية التي خُلِق من أجلها: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
المبحث الثاني: الدفاع عنه:
لقد نزلت الآياتُ الكريمةُ تدافعُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصَّة في المواطن التي قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن من البدهي أن يرد الإنسان عن نفسه تهمةً تحطُّ من قدره، أو تطلق عليه صفة من الصفات التي لا تليق بالإنسان الحر الكريم، فتولى الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه الدفاعَ وردَّ افتراءات الطاعنين:
1 – الدفاع عن شخصه الكريم وصفاته العظيمة:
أ – فعندما قالوا: إنه مجنون، يأتيه خنق الجنون وتشنجاته، ردَّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [ن: 1 – 4]، ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ن: 51 – 52].
• ودعاهم القرآن الكريم إلى تدبُّر ما يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم، واتهامه بالجنون؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46]، ويقول أيضًا: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 184]، وفي آية أخرى يقول عزَّ من قائل: ﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [المؤمنون: 69 – 70].
وكانوا يطلبون من رسول الله القضايا التعجيزية استهزاءً وعنادًا، وفي كل مرة يرد الله سبحانه وتعالى عليهم بالحق، وبيان سنة الله تعالى فيما يقولون؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ﴾ [الحجر: 6 – 8]، ويقول عزَّ من قائل: ﴿ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 36 – 37]، ﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾ [الطور: 29 – 31].
ب – واتَّهموه بأنه شاعر؛ لما رأوا من إيقاع الآيات القرآنية وكأنها موزونة بميزان دقيق، ولم يعرفوا هذه الإيقاعات إلا في الموازين الشعرية، ولكنهم عندما وضعوها على طريقة إقراء الشعر لم يلتئم، فردَّ الله سبحانه وتعالى عنه هذه الفِرية:
• قال تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ * مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 5 – 7].
• وقال عز من قائل: ﴿ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 36 – 37].
• وقال عز وجل: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾ [الطور: 30 – 31].
• ولقد نفى عنه قول الشعر، فقال: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [يس: 69 – 70].
• وبيَّنَ أنَّ الشعر لا يليق بمقام النبوة؛ لأن المعروف عن الشعراء اتباعهم الهوى وقول ما لا يفعلون، فهم كما قال الله عنهم: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 221 – 227].
جـ – وقالوا عنه كاهن؛ لأن الكهنة في الجاهلية كانوا يزعمون علم الغيب، والاتصال بعالم الجن، ويأتون بكلام مسجوع غامض يُتَمْتِمُون به، فشبَّهوا آياتِ القرآنِ بسجع الكُهَّان، وأخبارَه الغيبيةَ بأقوالِ الكهان، فدفَعَ القرآنُ الكريم عنه صفة التكهُّن وظنونهم وزمزمتهم وأكاذيبهم، فالقرآن كله حق وصدق.
• قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴾ [الطور: 29].
• وقال عن القرآن: ﴿ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الحاقة: 42].
د – وعندما ظنَّ بعض مَن في قلبه مرض أن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطفى لنفسه شيئًا من الغنيمة قبل قسمتها، كما كان يفعل بعض زعماء الجاهلية؛ حيث كان يأخذ لنفسه الصفايا والمرباع… دافَع الحق جل جلاله عن نبيِّه، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
والملاحظ أن الآية ذكرت عصمة الأنبياء عن الغلول، فكيف بأفضلهم وسيدهم وسيد الخلق أجمعين.
2 – الدفاع عن عرضه:
ولما كان الكريم حريصًا على صيانة عرضه من الدنس، وألا تَلوك الألسنُ فيه، فذلك مَظِنَّة الحَميَّة والدفاع عنه، والذَّود عن حِياضه بكل وسيلة، فتولَّى الله سبحانه وتعالى الدفاع عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا تبقى شبهة عند صاحب قلب عليل وذهن كليل، فمن ذلك:
أ – حادثة الإفك التي نزلت فيها عشر آيات تُبرئ ساحة الصديقة ابنة الصديق رضي الله عنهما؛ حيث نزل قولُه تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ… ﴾ [الآيات من سورة النور: 11 – 20]، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “ما كنت أظن أن ينزل في شأني قرآنٌ يتلى إلى يوم القيامة، وكنت أظن نفسي أحقرَ من ذلك، كنت أقصى ما أتمناه أن يرى رسول الله صلى الله عليه سولم رؤيا تُبرئ ساحتي من التهمة”.
ب – وعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبطل عادة التبنِّي التي توارثها الناس من أيام الجاهلية، أمر الله أن يزوِّجَ زينبَ بنت جحش بمولاه ومتبناه زيد بن حارثة، وعندما ترددت زينبُ وأهلُها، جاء الأمر الملزم: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
ولما لم تلتئم نفوسهما، ولم يجدا طعم السعادة في هذا الزواج، جاء زيد يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلاق زينب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبره ويقول له كما روى القرآن الكريم عنه: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ… ﴾ [الأحزاب: 37].
عندئذ أوحى الله إلى نبيِّه أن زينب ستكون زوجتك – يا محمد – فأْذَنْ لزيد بطلاقها، ولا شكَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤتمَنٌ على الوحي، فلن يكتم منه شيئًا، وفي الوقت نفسه فإنه كبشرٍ يتأثر بما يقال فيه وعنه، فقد خشي مقالةَ الناس عنه، فسيقولون: إنه تزوج بامرأة ابنه، ولكن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست ملكًا له، وسيرته وعلاقاته مصدر تشريع للأمة؛ فلا بد من إظهارها وإعلانها، فعاتبه ربه: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37]، ثم جاء ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40].
جـ – ولما أثيرت التساؤلات حول زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء قريبات وبعيدات، وكان بعضُهن يَهَبْنَ أنفسَهُنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضُهن يفوِّضْنَ أمرَ نكاحهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل في كل ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ… ﴾ [الأحزاب: 50].
3 – الدفاع عن مواقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مجالَ قيل وقال من فئات من الناس، أو كانت تصرفات لأناس استحيى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبههم على ذلك.
أ – القتال في الشهر الحرام: في السنة الأولى من الهجرة – وبعد أن أُذِن للمؤمنين بالجهاد في سبيل الله – أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِية إلى بطن نخل لرصد عير لقريش، وكانت السرية بقيادة عبدالله بن جحش، فمرت بهم عِير قريش في آخر يوم من رجب – ورجب شهر حرام لا يجوز القتال فيه – فتشاور عبدالله مع أصحابه، إن قاتلوهم انتهكوا حُرمة الشهر الحرام، وإن تركوهم دخلوا الحرم وقد حُرِّم القتال فيه، ثم قرَّروا القتال، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا عثمان بن عبدالله، والحكم بن كيسان، وأفلت منهم نوفل بن عبدالله، فأقبل عبدالله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدِموا المدينة، فأقامت قريش الدنيا ولم تُقعدها، وقالوا: إن محمدًا استباح حرمة الشهر الحرام، فنزل قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا… ﴾ [البقرة: 217].
ب – قطع النخيل في غزوة بني النضير: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير بعد تآمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتد الحصار – بسبب الاتصالات بين اليهود والمنافقين – فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتحام حصونهم، فأمر بقطع النخيل؛ وذلك لأمرين:
أولهما: إفساح المجال في المعركة للكرِّ والفرِّ.
والثاني: إدخال الرعب في قلوب العدو، وإشعارهم بجدية الموقف.
فاعترضت يهود: وقالت إن محمدًا كان ينهى عن الفساد، فما بال تحريق النخيل، أليس إفسادًا في الأرض؟! قال تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5].
جـ – عدم إحراجه في بيته: كان بعض فقراء المسلمين من أهل الصُّفَّة، ينتظرون أوقات الطعام الذي يقدَّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض جيرانه، وربما تعرَّضوا له في طريقه من المسجد إلى بيته؛ ليدعوهم معه إلى بيته.
وعندما عرَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، صنع طعامًا ودعا بعض الصحابة إلى وليمة عرس فأكلوا، وانصرف بعضهم وبقي آخرون، يتبادلون أطراف الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر انصرافهم؛ ليكون في شأن أهله، وليأخذ راحته، وطال الوقت، فنزلت الآيات الكريمة تُعلمهم حسن الأدب في التعامل مع رسوله الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 53].
هكذا نجد أن الله عز وجل يدافع عن رسوله حين يتحرج في الدفاع عن نفسه، ويعلِّم آداب التعامل معه؛ إذ يمنعه تواضعه من طلب ذلك، ويُبين الحق الذي ينبغي ألا يُستحيى منه، ويقطع دابر وساوس الشيطان من قلوب المؤمنين وأمهات المؤمنين عند الحديث عن الضرورات، وكما وجب تكريم الرسول والأدب معه في حياته، ينبغي عدم إيذائه بعد مماته، وذلك بالامتناع عن الزواج بأزواجه.
سبحانك اللهم ما أعظم ألطافك! وما أكرم رسولك عليك! اللهم ارزقنا حسن الأدب مع رسولك وأصفيائك من خلقك يا سميع الدعاء.
المبحث الثالث: عتاباته لرسوله والأساليب الرقيقة في ذلك:
إن من يتتبع العتابات التي وردت في القرآن الكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يدركُ مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه، وأنه هداه إلى طريق رضوانه والسير على المنهج القويم بألطفِ العبارات وأجملها، وكأنها تعرض الجانب التوجيهي عرضًا، وتمس القضية مسًّا خفيفًا لا تجرح المشاعر ولا توجف القلب.
أ – فتارة نجد التوجيه يكون بصيغة الغائب، وكأن الخطاب موجه إلى آخر، حتى إذا ذهبت صدمة الخطاب، وصعقة المفاجأة والاعتراض، تسرَّب العتاب إلى النفس أرقَّ من النسيم العليل.
• ففي موضوع عبدالله بن أم مكتوم جاء العتاب في قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 1 – 10].
فإن الحديث جاء عن شخص غائب، ويتوجَّه الذهن إلى هذا العابس في وجه الأعمى المتولي عنه، وفي غمرة انصراف الذهن إلى البحث عن المتحدَّث عنه، يدرك القارئ أن المقصود به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون قوة الصدمة قد امتصَّت وبقي التوجيه التربوي الرقيق.
• وفي قضية أخذ الفداء من أسرى بدر، جاءت الآيات تتحدث عن سنة الله في الأنبياء عامة، وما ينبغي أن تكون عليه الحالُ والأمر عند ظفرهم بأعدائهم في المعارك الأولى التي بين أهل الحق وأهل الباطل، حين يكون الباطل في ذِروة انتفاشه، فعندما يُمكَّن منه في بدايات المعارك، ينبغي أن تُقصَّ أجنحته، وتُنفَّس انتفاخته الكاذبة، ثم يعالج آثار هزيمته، ويتخذ الموقف المناسب من آثار المعارك معه، فجاء قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 67 – 69].
لقد بُدئ العتاب بالتوجيه للنبي، فمقام النبوة لم يتزحزح، ولم يمس، وخُتِم العتاب بإباحة الأكل الحلال الطيب، والمغفرة والرحمة، فالافتتاح بالتطمين، والاختتام بالسعادة والرحمة، وتسكين القلب والنفس، وما بينهما لا يكاد يزعج… ولكن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجف خيفة بالرغم من كل ذلك، وجلس هو وصاحبه أبو بكر يبكيان، ويقول لعمر: لقد دنا العذاب منَّا كأدنى من هذه الشجرة، ولو نزل ما نجا منه أحدٌ غيرك يا ابن الخطاب.
فكيف لو كان العتاب بغير هذا الأسلوب؟ إذًا لتفطَّر قلبُه من الحزن والكمد، فصلى الله عليك يا حبيب الرحمن.
ب – وتارةً يأتي العتاب متأخرًا لا يكاد يَبين في غمرة الأحداث والأخبار والأحكام، كما في سورة الكهف؛ حين بُدِئت السورة بيبان مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه؛ حيث جاء التعبير عنه بـ(عبده)، وإضافة صفة العبودية إلى الله سبحانه وتعالى غاية التشريف والتعظيم، كما سبق أن بيَّناه في المبحث الأول، ثم رد وتبكيت لأعدائه الذين قالوا الكذب في حقه وحق الكتاب المنزل عليه، ثم وجَّهه ألا يُهلك نفسه ويُذهبها حسرات لتولي القوم عن الحق، ثم أجاب عن سؤالهم التعجيزي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتية الذين خرجوا في الزمن الغابر وكان من أمرهم عجبٌ.
وهذا السؤال وغيره عندما سأله المشركون، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتوني غدًا أخبركم عنها)، ونسِي أن يقول إن شاء الله.
وبعد سرد قصة أصحاب الكهف كاملة، جاء في التعقيب عليها: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 23 – 24].
ألا ترى أن تذكيره بقضية النسيان، وتنبيهه إلى ربط كل أمر مستقبلي بمشيئة الله، جاء في سياق لا يكاد يَفطَن له المرء، ولو كان ذلك في بداية الحديث، وقبل الإجابة عن السؤال، لكانت صدمة العتاب تُذهب حلاوة الفرح بالحصول على الجواب.
جـ – وتارةً يأتي ذكر العفو والمغفرة مقدمًا على ذكر الموضوع المعاتب عليه، وكأن الحبيب يُهدِّئ من رَوْع حبيبه، وإن كل ما تفعله مشمول بالعفو والمغفرة، ولن يؤثر في مكانتك ومقامك عند خليلك، وهذا الأمر كان الأفضل أن يكون كيت وكيت، نَلحَظ ذلك في عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب إذنه للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فقد جاء: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43].
كانت هذه قبسات من مِشكاة الوحي الذي تحدَّث عن رسول رب العالمين وخاتم النبيين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
ولو تتبَّعنا الآيات التي تحدثت عن الحبيب المصطفى في طفولته وقبل بَعثته، والآيات التي نزلت عند بعثته ونبوَّته، ثم الآيات التي كانت تنير له الطريق في دعوته، ثم الآيات التي تحدثت عن عناية ربه به ورعايته له في هجرته، والآيات التي رافقت مسيرته في تأسيس مجتمعه الرباني وبناء دولته – لو تتبعنا كل ذلك، لطال بنا التَّجوال، ولئن كان في العمر فسحة، ويسَّر الله لي الأسباب، لأَتتبَّعَنَّ سيرته العطرة من خلال آيات الذكر الحكيم؛ لأَستنبط منها الدروس التربوية الباهرة بإذن الله تعالى ومشيئته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.