موقع أ.د مصطفى مسلم
الموقع الرسمي لفضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم

المناسبات في سورة الفرقان

سبقت الإشارة إلى ما للمناسبات من أهمية في الترابط بين السور، وفي إحكام السورة والتلاحم بين مقاطعها، وفي إبراز الموضوعات والأهداف في السورة وبيان محورها الأساس. لذا سنقف وقفات متأنية مع المناسبات في سورة الفرقان.

أولاً- المناسبات بين افتتاحية سورة الفرقان وخاتمة سورة النور:

اختتمت سورة النور بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 62- 64].

وافتتحت سورة الفرقان بقوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 1- 3].

 

1- ثناء وتحذير:

• في خاتمة سورة النور الثناء على المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لالتزامهم بآداب الإسلام ومنها توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا ضمهم جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاورهم في مهمات المسلمين أو يبحث قضية من القضايا العامة لا ينصرف أحدهم حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئلا يفتقده عند الحاجة، وهذا الأدب الإسلامي الرفيع مطلوب من المؤمنين في جميع عصورهم مع قياداتهم الراشدة.

وفي الوقت نفسه حذَّرت الآيات الكريمة المتسللين خفية عن الأنظار، الذين يؤثرون مصالحهم على القضايا العامة، أو يفارقون الجماعة هروباً من المسؤولية وخشية التكاليف وإسناد المهام إليهم، حذَّرتهم من التعرض للفتنة في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة، فليس لهم من الله من واق يدفع عنهم الفتنة أو العذاب.

• وفي افتتاحية سورة الفرقان: لله المثل الأعلى في الثناء، ومهمة الرسول العظمى الإنذار جاء الثناء على الله جلَّ جلاله بلفظ (تبارك) ومادة البركة تدل على النماء والزيادة، فالمستحق للثناء المطلق هو الله تعالى، والثناء والبركة تدل على صفة الفعل هنا لأن هذه البركة وصلت إلى عباده بإنزال الفرقان على عبده فآمن به من آمن والتزم المؤمنون بهدايته، ومن هذه الهدايات الآداب التي التزم بها المؤمنون في علاقاتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحقوا الثناء من الله تعالى على هذا الالتزام.

أما من لم يرفع رأساً بهدايات التنزيل من الحكيم الحميد فلينذره رسول الله صلى الله عليه وسلم من سوء العاقبة (من الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة).

2- توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه:

جاء ذلك في خاتمة سورة النور في مظهرين:

أ- عدم انصراف المؤمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، وذلك لبيان الجانب القيادي في شخصه، ولضبط الأمور وتنظيمها في حياة المؤمنين.

ب- وعدم مناداته باسمه المجرد ولا بكنيته؛ وإنما ينادى بلقب الرسالة ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾ [النور: 63]. عن ابن عباس قال: “كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله”[1].

وجاء توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم في افتتاحية سورة الفرقان في مظهرين أيضاً:

أ- وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة العبودية المضافة إلى الله تعالى، وهذه الصفة يوصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشرف المقامات وأقربها، وفي مقام النصرة وإبراز الحجة، والقيام بالمهمة، ففي أشرف الأحوال والمقامات في قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى… ﴾ [الإسراء: 1].

وفي أقرب المقامات في ليلة المعراج ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 10].

وفي مقام النصرة وإبراز الحجة في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23].

وفي مقام الدعوة إلى الله تعالى وهي المهمة العظمى التي كُلِّف بها ففيها تنويه به وثناء عليه صلى الله عليه وسلم ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19].

ب- عالمية رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

وهذه ميزة لم يعطها أحد من الأنبياء والمرسلين غيره كما صحَّ في الحديث “أُعْطِيُت خمساً لم يعطهن أحد قبلي… وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة…”[2].

3- مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمى (الإنذار):

جاء ذلك في خاتمة سورة النور في قوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]. والتحذير عن مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لون من الإنذار، وينبغي أن تجتنب المخالفة بكل صورها، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فليحذر من الشرك، وأمر بالإيمان بالبعث بعد الموت فليحذر عن إنكار البعث، وأمر بالإيمان بالقرآن وما ورد فيه من الهدايات فليحذر عن تعطيل أحكامه. وأمر بالآداب الإسلامية العامة ومنها طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم الانصراف إلا بإذنه فليحذر عن مخالفة ذلك، وجاء الثناء باللفظ الصريح على من يلتزم أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتأدبون بالآداب الإسلامية، فالشهادة لهم بالإيمان، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفقة عليهم ورعاية حالهم ومصالحهم بالإذن والاستغفار لهم، وفي ضمن ذلك ذكر الشق الثاني لمهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي البشارة.

• وجاء ذكر مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً في افتتاحية سورة الفرقان في قوله تعالى: ﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ وحذف المتعلق – الجار والمجرور- لتعم النذارة كل المخالفات عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في العقائد، والسلوك، والمعاملات، والأخلاق.

وفي ضمن ذلك البشارة بالمفهوم المخالفة، فإذا كان نذيراً للعالمين عن المخالفة فهو بشير للطائعين المؤمنين.

ففي افتتاحية سورة الفرقان نوع من الارتقاء والتعميم:

في الثناء، وفي الذين ورد الثناء عليهم، وفي المهمة.

4- مظاهر من قدرة الله جلَّ شأنه وعظمته ووحدانيته وتنزيهه:

في خاتمة سورة النور نلحظ ذلك في قوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 64].

• لله ملك السماوات والأرض وما بينهما خلقاً وتقديراً وتدبيراً وإنهاء وتدميراً، وفي تقديم لفظ الجلالة بيان تفرده بذلك.

• علمه المحيط بأحوالهم وصفاتهم وإحصاؤه عليهم، للمحاسبة والمجازاة.

• علمه المحيط بكلِّ شيء وهو تعميم بعد تخصيص لأن السياق سياق بيان القدرة والعظمة.

وجاءت بعض المظاهر الدالة على القدرة والعظمة والتوحيد في افتتاحية سورة الفرقان في قوله تعالى: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2].

• لله ملك السماوات والأرض، خلقاً وتقديراً وتدبيراً، وفي تقديم الجار والمجرور (له) المتعلق بالخبر المتقدم على المبتدأ فيه الدلالة على الحصر والقصر.

• تنزيهه عن الولد والشرك فهو الغني عن ذلك، المنزه عن العجز والحاجة، فمن مظاهر كمال قدرته وعظمته غناه عن المخلوقات.

• خلق المخلوقات بتقدير، ولا يكون التقدير إلا بناء على العلم المحيط بدقائق الأمور وجلائلها، ويستلزم الحكمة لوضع الشيء المقدر في مكانه المقدر بناء على العلم المحيط.

5- اليوم الآخر والبعث بعد الموت:

• وأنَّ ذلك من خصوصيات الإله الحق.

• جاء ذلك في خاتمة سورة النور قوله تعالى: ﴿ … وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ﴾ [النور: 64].

• وجاء ذلك عند الحديث في افتتاحية سورة الفرقان عن العجز المطلق لآلهتهم المزعومة ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 3].

فالله جلَّ جلاله المتفرد بالإماتة والإحياء والنشور والحساب والجزاء.


[1] الدرر المنثور: 6/ 230. وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه وأبي نعيم.

[2] انظر صحيح البخاري، كتاب التيمم: 1/ 86.

 

قد يعجبك ايضا