موقع أ.د مصطفى مسلم
الموقع الرسمي لفضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم

الإسلام والإيمان والإحسان

عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ طلَع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرِفه منا أحد، حتى جلَس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأسْنَد ركبتَيه إلى ركبتيه، ووضَع كفَّيه على فخِذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((الإسلام: أن تشهَد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتَحُج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: صدَقت، قال: فعجِبنا له، يسأله ويُصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمِن بالله وملائكته وكتُبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمِن بالقَدَر خيره وشره))، قال: صدَقت، قال: فأخبِرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبُد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة، قال ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل، قال: فأخبِرني عن أماراتها، قال: ((أن تلِد الأَمَة ربَّتَها، وأن ترى الحفاة العراة العالَة رِعَاء الشَّاء يتَطاوَلون في البُنيان))، قال: ثم انطلَق فلبِثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري مَن السائل؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم))[1].

 

أ- ترجمة الصحابي:

عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – العدوي القرشي[2]، ولِد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، كان من أشراف قريش، وإليه السفارة في الجاهلية، أسلَم بعد أربعين رجلاً وعشْر نِسوة، وبإسلامه ظهَر شأن الإسلام بمكة، وكان ذلك ببركة دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد قال: ((اللهم أعِزَّ الإسلام بأحبِّ الرجلين إليك؛ عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام))؛ يعني: أبا جهل.

 

قال عبدالله بن مسعود: “كان إسلام عمر فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة”.

 

شهِد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدرًا وأُحدًا وبَيْعة الرضوان، وغيرها من المَشاهِد.

 

جعل الله – سبحانه وتعالى – الحقَّ على لِسانه؛ يقول عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفسي بيده، ما لَقِيك الشيطان سالِكًا فجًّا قط إلا سلَك فجًّا غير فجك))[3].

 

وعن أنس، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صعد أحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، فضربه برِجله، وقال: اثْبُت أحد، فما عليك إلا نبي وصِدِّيق وشهيدان[4]، ومناقِبه أكثر من أن تُحصى، تولَّى الخلافة بعد أبي بكر بعهدٍ منه سنة ثلاث عشْرة للهجرة، واستُشهِد سنة ثلاث وعشرين للهجرة وعمره ثلاث وستون سنة، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر، ودُفِن مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حُجرته.

 

ب- شرح الغريب:

بينما نحن جلوس عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ طلَع علينا رجل:

كان رسول الله يجلس بين أصحابه للتعليم، ولكنهم كانوا يتحرَّجون من سؤاله خوف الوقوع في النهي الذي ورَد ذِكره في قوله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101، 102]، فما كانوا يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا عند وقوع أمر لا يعرفون حُكمه، ولعل هذا النهي عن الأسئلة كان لحِكمة، وهي سدُّ الذرائع، أما المنافقون الذين كانوا يتعنَّتون في إثارة الأسئلة للتهكُّم برسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو تعجيزه، وكذلك قطْع الطريق على المُتشدِّدين الذين يوقِعون المسلمين في حرَج، كسؤال من سأل لما نزَلت آية الحج: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فقال: ((لا، ولو قلتُ: نعم لوجَبت، ولَمَا استطعتم)).

 

لذا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ذَرُوني ما تركتُكم، فإنما هلَك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم))[5]، فكان يُعجِبهم أن يأتيهم الرجل الغريب العاقل، فيسأل وهم يسمعون، فيتعلموا من رسول الله ما يجيب به السائل، فكان من رحمة الله بهم أن أرسَل جبريل – عليه السلام – ليُعلِّمهم أمور دينهم.

 

شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر:

لقد أعطى الله – سبحانه وتعالى – الملائكة – وهم أجسام نورانية لا تُرى – القدرةَ على التشكل بالمحسوسات، ولما كانت الملائكة أرقى طبيعة وخِلقةً من الإنسان، فإذا تمثَّلوا بالإنسان تمثَّلوا بإنسان في أجمل صورة وأكمل خِلقة، وكان جبريل – عليه السلام – كثيرًا ما يتمثَّل بدحيةَ الكلبي، وكان من أَوْسَم الصحابة وأجمَلِهم، وقد جاء في رواية النَّسائي لهذا الحديث زيادة: ((أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأنَّ ثيابَه لم يَمسَّها دَنس)).

 

بخلاف الجن الذين يتشكَّلون بالمحسوسات أيضًا، لكنهم أدنى خِلقة من الإنس، فإما أن يتمثَّلوا بالهوام أو الحيوانات، وإن تشكَّلوا بالإنس لا تكون خِلقتهم كاملة؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري: “حيث صافحني الجني وإذ بيده يد كلب”[6].

 

لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرِفه منا أحد:

كون الرجل غير معروف من أهل المدينة، معناه: أنه قادِم من خارجها، ومن البدهي أن يكون المسافر أشعثَ أغبر مُرهقًا، فهذان وصفان متناقِضان يحملان على الدهشة من حال الرجل.

 

حتى جلَس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -:

جاءت هذه الرواية مُجمَلة؛ حيث لم يُذكَر سلام الرجل ولا استئذانه، وفي رواية النَّسائي المفصَّلة:

حتى سلَّم من طَرَف السماط، قال: السلام عليكم يا محمد، أَدْنو؟ فردَّ عليه السلام، قال: ((اُدْنُهْ))، فما زال يقول: أَدْنُو؟ مرارًا، ويقول: ((اُدْنُهْ))، حتى جلس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم.

 

فأسْنَد ركبتيه إلى ركبتيه، ووضَع كفيه على فخِذيه، وقال: يا محمد:

إسناد ركبتَيه إلى ركبتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دليلٌ على الحرص على التعلُّم لئلا يفوته شيء مما يقوله – عليه الصلاة والسلام، ووضْع الكفين على الفخِذين هيئة المتأدِّب بين يدَي المعلم، غير أن مناداة الرسول – صلى الله عليه وسلم – باسمه لا يليق بمقام الرسالة، فإن الله – تعالى – لم يُخاطبه في القرآن إلا بلقب الرسالة أو النبوة، أو وصْف يليق بحاله، ولم ينادِه باسمه المجرد، ولعل جبريل – عليه السلام – فعَل ذلك زيادة في التعمية والإغراب؛ لأن مُناداة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باسمه المجرد كان من شأن الأعراب ساكني البادية الذين لم يسكنوا المُدن والحواضر، وقد كان جبريل – عليه السلام – على صورة أحدهم[7].

 

أخبِرني عن الإسلام:

المقصود بالإسلام هنا معناه الشرعي، وهو الانقياد الظاهر لجميع أوامر الله أصولاً وفروعًا، وجواب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ذلك جاء بالتركيز على الجانب العملي من الإسلام، فبوابة الدخول إلى دين الله هي كلمة الشهادة، النطق العملي بها، وهي بمثابة الدِّعامة الوسطى للخيمة، والأركان الأربعة الأخرى: الصلاة والزكاة والصيام والحج بمثابة الأوتاد الأربعة التي تُمسِك بالخَيمة من أطرافها، وما وراء ذلك من الواجبات والآداب تَحفظ بها صورة الإسلام ورَونقه كالأروقة والأستار التي تُشَدُّ على الأعمدة.

 

وقد جاءت أركان الإسلام في الحديث مرتَّبة وَفق ترتيبها الزماني في التشريع؛ فالشهادتان أول ما دعا إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند مبعثه في مكة، ثم فُرِضت الصلوات الخمس قبل الهجرة ليلة المعراج، ثم فُرضِت الزكاة وصوم رمضان في السنة الثانية للهجرة، ثم فُرِض الحج في السنة السادسة، وقيل: التاسعة من الهجرة.

 

ولو نظرنا إلى ترتيب هذه الأركان من زاوية استِحقاق تارِكها العقوبة، فإننا نلْحَظ أن منكِر الشهادتين كافر، وإذا قوتِل يُقتَل كفرًا، وتارِك الصلاة يُقتَل حدًّا على قول الجمهور، ومانع الزكاة يقاتَل عليها حتى يؤدِّيَها ولا يُقتَل قصدًا، وتارك الصوم لا يقتل ولا يقاتل، بل يؤدَّب ويعزَّر بالسجن والضرب ونحوهما مما يراه الحاكم، وتارِك الحج يُفوَّض أمرُه إلى الله تعالى؛ لأن شرط الاستطاعة قد يخفى على الناس.

 

وهذه العقوبات على مَن ترَك هذه الأركان أو أحدها كسلاً وإهمالاً، وهو معترِف بوجوبها، أما مَن ترك شيئًا منها جحدًا وإنكارًا لوجوبه، فإنه يُقتَل كفرًا، وكذلك كل من جحَد أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.

 

قال: صدَقْتَ، قال فعجِبنا له، يسأله ويصدِّقه:

وهذان أمران مختلفان لا يجتمعان؛ فالسؤال يدل على أنه يريد التعلُّم، والتصديق يدل على أنه عالم؛ لذا كان مَثار استغراب الصحابة – رضوان الله عليهم – وعَجَبهم، ولكن جبريل قصَد من ذلك أن يُريهم آداب السؤال وكيفية المحاورة مع أهل العلم، فكان في دور طالب العلم المتحلي بالجرأة المقرونة بالأدب، والذي يختار من المسائل أهمَّها وأعمها فائدة، وبعد سماعه الجواب من الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يعلِّمهم كيف يكون الإذعان للحق، وإنصاف المسؤول إذا أعطى الجواب المقنِع البيِّن، فسارَع إلى تصديقه.

 

قال: فأخبِرْني عن الإيمان:

الإيمان: هو التصديق الجازِم، وسؤال جبريل – عليه السلام – كان عن الإيمان الشرعي، وجواب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان تفسير الإيمان بمعناه الاعتِقادي فقط؛ لذا ذكَر أركانَ الإيمان الستة.

 

قال: أن تؤمنَ بالله:

الإيمان بالله يتضمَّن الإيمان بوجوده ووحدانيته، وإثباتَ صفات الكمال المطلَق له – ومعرفةُ أسماء الله وصفاتِه طريقُها النقل والسماع – وتنزيهَه عن صفات النَّقص.

 

وملائكته: الإيمان بوجود الملائكة، وأنهم مخلوقات لله – تعالى – نورانيَّة، لا يَعصون الله ما أمَرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهم مكلَّفون بإدارة شؤون الكون والمخلوقات حسَب السُّنن التي أودَعها الله فيه، ولكل واحد منهم مقام معلوم، ومنهم المسبِّحون.

 

وكتبه: والكتب المنزَّلة التي ذُكِرت في القرآن الكريم أربعة:

التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وأُنزِل على بعض الأنبياء صُحفٌ، منها: ما أُنزِل على إبراهيم وموسى – عليهما السلام – كما في قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19].

 

ورُسله: الإيمان بالرسل من أركان الإيمان، وقد ذُكِر خمسة وعشرون منهم في القرآن الكريم بأسمائهم، وذُكِر في بعض الأحاديث أن عدد الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر، وعدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا، فيجب الإيمان بمن ذكِر اسمُه على التعيين، ويجب الإيمان بالآخرين إجمالاً، ويجب اعتقادُ تحلِّيهم بصفات الكمالات البشرية؛ من الصدق والأمانة والفطانة والعصمة والتبليغ كما تقدم في الموضوع الثالث.

 

واليوم الآخر: والمقصود به المرحلة الرابعة لحياة الإنسان؛ فإن مراحل الحياة ذُكِرت في قوله – تعالى -: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 20 – 24]، هذه المرحلة الأولى، والمرحلة الثانية والثالثة جاءت في قوله – تعالى -: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ [المرسلات: 25، 26]، الأرض تَحفظ الإنسان في حال الحياة على ظهرها، وهي المرحلة الثانية، وتحفظ الإنسان بعد موته في بطنها، وهي المرحلة الثالثة، وتُسمَّى الحياة البرزخية، وقد جاء ذِكرها في قوله – تعالى -: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، أما المرحلة الرابعة: وهي المقصود هنا في الحديث باليوم الآخر، وقد ذُكِر في قوله – تعالى -: ﴿ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 29 – 34]، هي التي احتوت على المراحل الأربعة.

 

والإيمان باليوم الآخر يشتمِل على جميع المواقف والمشاهد التي ورَد ذِكْرها في القرآن الكريم وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم؛ من النفخ في الصور، وبعْث الناس وحشْرهم، والميزان، والحساب، والصراط، والجنة، والنار.

 

وتؤمن بالقَدَر خيره وشره:

المراد بالقَدَر عِلم الله – تعالى – الأزلي، المحيط بمقادير الأشياء وأحوالها التي تكون عليها، من مبدأ ونهاية، وقوة وضعْف، وخير وشر، وما تقَع فيه من زمان ومكان، وما يَسبِقها من مُقدِّمات، وما يتْبعها من آثار، بحيث يكون إيجادها بعد ذلك على وَفْق ذلك العِلم، فلا يقع مثقالُ ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا طِبقًا لِما أحاط به علمه وسبَق به كتابه[8].

 

وقد دلَّت الآيات الكريمة الكثيرة وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المتعددة على هذا الركن، منها قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقوله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، وليس معنى الإيمان بالقَدَر الكفر بالأسباب التي تترتَّب عليها النتائج، فكما علِم الله – سبحانه – الأشياء، علِم أسبابها ونتائجها وسائر أحوالها، وربَط بعضها ببعض في عِلمه، فمجموع ذلك هو القَدَر، وهذا ما يُرشد إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اتِّخاذ الأسباب مع التوكل على الله والإيمان بالقَدَر؛ حيث يقول: ((المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستَعِن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعَلت كذا وكذا وكذا، ولكن قل: قدَرُ الله وما شاء فعَل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان))[9].

 

قال: فأخبرني عن الإحسان:

الإحسان: يُطلَق في اللغة على معنيين: الأول: يُقال أحسن، بمعنى فعل فعلاً حسنًا أو أصاب.

 

والمعنى الثاني: بمعنى: الإتقان والإجادة يقال: أحسَن عمله؛ أي: أتقَنَه وجوَّده.

 

والمقصود في الحديث هنا: السؤال عن كيفية إتقان المسلم عبادته وطاعته.

 

قال: ((أن تَعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)):

إن العامل إذا كان يؤدِّي عملاً بحضور صاحب العمل فلا شكَّ أنه سيبذل أقصى جُهده؛ ليكون عملاً متقنًا لا خلَلَ فيه، وبما أن رؤية الله مستحيلة على المخلوقات في هذه الحياة الدنيا، فليُنْزل المسلم رؤية الله له واطِّلاعه على علمه مكان رؤيته لربه؛ فالعِلم برؤية الله له يبعثه على إتقان العمل كأنه يرى الله تعالى، وهذه المراقبة والحضور من عقيده المؤمن؛ كما جاء في قوله – تعالى -: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].

 

قال: فأخبرني عن الساعة:

الساعة في الأصل تُطلَق على الجزء من الليل أو النهار؛ قال – تعالى -: ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]، ويقول – عز وجل-: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [يونس: 45].

 

وأُطلِقت الساعة في القرآن الكريم كثيرًا على (يوم القيامة)؛ والأحداث الكونيَّة الهائلة التي تقع؛ كما في قوله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]، وسؤال جبريل – عليه السلام – عن هذا اليوم، وبما أن الله استأثَر بعِلم الساعة فلا يعلَمه ملَكٌ ولا نبي؛ كما قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ [طه: 15]، أي: أكاد أُخفيها حتى عن نفسي، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:

((ما المسؤول عنها بأعلَمَ من السائل)):

جاء الجواب بصيغة التعميم، فلم يَقُل: لا أعلَمها؛ حتى لا يتوهَّم أن غيره يعلَمُها، وإنما عمَّم عدم عِلم كل مسؤول عنها بها، فلا السائلون يعلمون ولا المسؤولون من المخلوقات يعلمون.

 

قال: فأخبرني عن أماراتها:

الأمارة: العلامة، وكذلك الأشراط بمعنى العلامات، وأشراط الساعة: علاماتها.

 

قسَّم العلماء علامات الساعة إلى علامات صغرى، وعلامات كبرى.

 

فالصغرى: تكون متقدِّمة بمدة طويلة نوعًا ما عن وقوع الساعة، ومن أهم أشراط الساعة الصغرى: بِعثة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ووفاته، وفتْح بيت المقدس[10]، وفتح القسطنطينية، ومنها ما ورَد في هذا الحديث، والحكمة من هذه الأشراط الصغرى تذكير المؤمن بقُرْب يوم القيامة؛ لكيلا تأخذه الغفلةُ عنها والانشغال بمُتَع الحياة الدنيا والاطمئنان إليها.

 

أما العلامات الكبرى فهي التي تَتْبعها أحداث يوم القيامة مباشرة من اختلال النظام الكوني، وقد جاءت جملة منها في حديث حذيفة الغفاري – رضي الله عنه – قال: اطَّلع علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن نتذاكَر فقال: ((ما تَذكُرون؟)) قالوا: نذكُر الساعة، قال: ((إنها لن تقوم حتى تَروا قبلها عشر آيات: فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تَخرُج من اليمن – وفي رواية من قعر عدن أبين – تطرُد الناس إلى المحشر))[11].

 

قال: ((أن تلد الأَمَة ربتها)):

الأَمَة: هي المملوكة الرقيقة.

ربتها: الرب، المالك، السيد، والربَّة: المالِكة والسيدة، للعلماء تفسيران لهذه العبارة: الأول: أن تَكثُر الفتوح الإسلامية ويَكثُر السبايا، فيتزوَّج بهن قادة المسلمين، فتَلِد الأَمَةُ المملوكة أبناءً لهؤلاء القادة، فيصبح منهم السادة والملوك، وبناتٍ يكنَّ سيدات وملِكات؛ فيكونوا أربابًا وربَّات لأمهاتهم ولغير أمهاتهم بالأَوْلى، وقد وقَع مِثل هذا في بداية الفتوحات الإسلامية لبلاد الفرس والروم، كما كان للموالي صَولة وجَولة في دولة بني العباس ودولة المماليك.

 

والتفسير الثاني للعبارة: أن يَكثُر العقوق بين الأولاد والآباء، فتكون الابنة هي الآمرة الناهية في البيت وكأنها السيدة، وأمها كأنها الخادمة عندها، وهذا المعنى واقع شائع، فما أكثر هذا اللون من العقوق وخاصة في عصورنا هذه.

 

((وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاءِ يَتطاولون في البنيان)):

الحفاة: جمع حافٍ، الذي لا نَعْل برجله.

 

العُراة: جمع عارٍ، الذي لا ثوب على بَدَنه.

 

العَالة: جمع عائل، وهو الفقير.

 

رِعاء الشاء: رُعاة الغنم.

 

يتطاولون: يتنافَسون في ارتفاع المباني أيُّهم أطول بُنيانًا.

 

والمراد بهذه العلامة أن أهل الحاجة والفاقة وأهل الجهل والتخلُّف العلمي والحضاري يَصيرون إلى بَسْطة في الدنيا، وَسْعة من المال والجاه، حتى يتنافسوا في رفْع القصور، ويُصبِحوا رؤساء الناس وملوك الأرض، وقد تحقَّق مَثلُ ذلك في مختلف العصور، وعبر الأجيال؛ فقد اندَثرت دول وقامت دول تتحقَّق فيها هذه المعاني[12].

 

قال: ثم انطلَق، فلبِثتُ مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري من السائل؟)):

أي: ثم انصرَف السائل، وجاء في بعض الروايات: فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((ردُّوا عليَّ الرجل))، فالتُمِس، أو فأخذوه ليردوه، فلم يجدوه ولم يَروا شيئًا.

 

ومعنى فلبِثتُ مَليًّا؛ أي: بقيت مدة طويلة.

 

قال: ((فإنه جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم)):

أسنَد التعليم إلى جبريل – عليه السلام – عِلمًا أنه السائل الذي قام بدور المتعلِّم، ولما كان أسلوبه في السؤال واستِفساره عن قضايا هي أمهات أمور الدين وأصول الإسلام، هذا الأسلوب كان سببًا في الحصول على الإجابات من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فحصل العلم الكثير بسببه وبحُسن أسلوبه في السؤال، وقد قيل: “حُسْن السؤال نصف العلم”.

 

ما يُستنبَط من الحديث:

1- مراعاة آداب طلب العِلم عند الإقبال على العلماء:

أ- حُسْن الهيئة، وحسن الملابس، وأخْذ الزينة، وقيل: “حُسْن الأدب في الظاهر عنوان حُسْن الأدب في الباطن”[13].

 

ب- التأدب في الجلوس بين يدَي العالم.

 

ج- الدُّنو من العالم لكي يُسمِعه السؤال، ويستمِع إلى الجواب من غير مشقَّة على العالم.

 

د- السؤال عن الأمور الهامة من قضايا الدين وتَرْك التفريعات النظرية.

 

هـ- المبادرة إلى إظهار الإذعان للحق عندما يتَّضِح لطالب العِلم.

 

2- أركان الإسلام الخمسة: الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، وكذلك أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله تعالى، والملائكة، والكتب، والرسل، والقَدَر خيره وشره، من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، مَن جحَد شيئًا منها فقد ارتدَّ عن الإسلام.

 

3- أهمية الإتقان في العمل والطاعة؛ فقد جعله الرسول – صلى الله عليه وسلم – قَسيم الإسلام والإيمان، ووردت آيات كثيرة تبيِّن مكانة المحسنين وأجرهم العظيم.

 

4- العلم بمجيء وقت القيامة من أمور الغيب التي أستأثَر اللهُ بعِلمها، ولم يُطلِع عليها أحدًا من خلْقه، لا مَلَكًا مُقرَّبًا ولا نبيًّا مُرسلاً.

 

5- إذا سئل العالِم عن شيء لا يعلمه فليقل: لا أعلم، أو لا أدري، وليس ذلك بمُنقِصٍ من قَدره ومكانته، بل دليل على ورَعه وتقواه ووفور عِلمه.

 

6- حُسْن أدب الصحابة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برد العلم إلى الله وإلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعدم المبادرة بالإجابة، ولا ينبغي للطالب أن يُبادِر بالجواب بين يدَي معلِّمه؛ اقتداءً بصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.


[1] أخرجه الخمسة إلا البخاري.

[2] انظر ترجمته في أُسْد الغابة في معرفة الصحابة جـ3 ص642 وما بعدها.

[3] أخرجه الشيخان.

[4] أخرجه البخاري

[5] أخرجه مسلم.

[6] كما في صحيح مسلم.

[7] جاء في بعض الروايات أن الرجل: ((وضَع يده على ركبتَي النبي – صلى الله عليه وسلم))، وفي ذلك جُرأة الأعراب وملاطفة القرب، ولعل جبريل – عليه السلام – أراد بهذه المفارقات لفْتَ انتباه الحاضرين إلى الحوار الذي دارَ بينه وبين الرسول – صلى الله عليه وسلم.

[8] انظر المختار من كنوز السنة ص 219.

[9] أخرَجه مسلم، وانظر لمزيد من التفصيل “المختار من كنوز السنة”، ص 221وما بعدها.

[10] انظر ذكْر هذه الأشراط في الصحيحين.

[11] رواه مسلم.

[12] انظر المختار من كنوز السنة النبوية؛ للدكتور محمد عبدالله دراز ص 294.

[13] انظر كتاب: (دليل الفالحين شرح رياض الصالحين)؛ لابن علان الصديقي 216/1.

قد يعجبك ايضا