﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم:11، 12].
في عرف الناس أن القرب من أناس معينين يجر صفتهم عليه، فينظرون إلى أهل المجرم نظرة تحقير وإلى أولاد اللص نظرة ازدراء وإلى زوجة المرتشي نظرة ريبة وشك …
ولا شك أن المرء يتأثر ببيئته ومنشئه، ويتطبع بطباع من يخالطهم ويتأثر بصفاتهم، ولكن لا ينبغي أن يكون الأمر على إطلاقه، إن الأصل في ذلك معدن الإنسان وجوهره، والمعادن تختلف من إنسان إلى آخر فربما اختلفت المعادن وكشفت الفتنة البعد الحقيقي ما بين معدني إنسانين تجمعهما بيئة واحدة وسقف واحد.
لذا لا ينبغي أن يؤخذ أحدهما بجريرة الآخر ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الإسراء: 15].
ويضرب الله سبحانه مثلاً لهذا النموذج الذي لم يتأثر بما يحيط به من مفاسد، ولم تنحرف فطرته على الرغم من الدواعي التي كانت تدعو إلى ذلك إنه نموذج امرأة فرعون.
• امرأة فرعون تمثل ذلك النموذج الإنساني الرفيع الذي يتسامى عن ملذات الدنيا ومتعها وأبهتها. ويركل ذلك كله برجله، ويضحي به في سبيل العقيدة والظفر بما عند الله من رضوانه وجناته.
لقد توافر لآسية بنت مزاحم[1] كل أسباب المتع الدنيوية:
فمن حيث الجاه هي زوجة ملك مستبد طوع بنانه ملك مصر، وأنهارها تجري من تحته، وله العروش والمقام الكريم.
وفي خدمتها الجواري وكل أهل البلاط يسعون في خدمتها.
والأموال والجواهر والزينات وكنوز الأرض في حوزتها.
والأثاث والرياش ومهرة الصناع والبنائين يتقربون إليها بإسداء الخدمات. إن ما تحلم به امرأة في الدنيا ويصل إليه خيالها كانت تحت يدها.
فلما لامست بشاشة الإيمان قلبها – وكانت صاحبة فراسة – رأت في موسى الطفل وهو يترعرع في حضنها بكل صفاء الطفولة وبراءتها واستقامتها وجمالها وصدقها ونقائها، ووجدت في موسى الطفل والشاب نموذج الإنسانية الكاملة.
ورأت في موسى النبيّ الصدق والرشد والهداية والتقوى والشجاعة والقوة والزهد وإنها المعاني التي تلامس شفاف القلب وتستهوي النفس الإنسانية السوية التي لم تنحرف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها وهي الدين القيم.
فآمنت بموسى عليه السلام ودعوته، وترفعت عن الدنيا كل الدنيا وشهواتها وآثرت جوار الله سبحانه وتعالى على جوار فرعون، وآثرت الدار الباقية على الدار الفانية، وآثرت البيت في الجنة على قصور فرعون، وآثرت لذة المناجاة مع رب السماوات والأرض على الدنيا وأنسها.
واستعذبت العذاب في الله واحتسبت نفسها مجاهدة شهيدة.
إن التضحية عند المرأة قد تكون أكثر مما عند الرجل، لشدة عاطفتها وميلها الطبيعي إلى التمسك بالمثل والفضائل.
وتحملها في سبيل عقيدتها أقوى مما عند الرجل، لأن المرأة فطرت على تحمل المشاق للاستعداد النفسي لديها.
إن أهل الدعوة الإسلامية كثيرًا ما يفرّطون في تأهيل المرأة لحمل الدعوة ومن ينظر في السيرة النبوية يجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أولى المرأة المسلمة الداعية اهتمامه وشغلت المرأة حيزًا كبيرًا في حياة الدعوة عند الرعيل الأول.
• فأول شهيد في الإسلام كانت امرأة لقد أخذت بالعزيمة وصبرت حتى نالت الشهادة، بينما كان كثير من الشباب من صحابة رسول الله أخذوا برخصة الله في ذلك وأعطوا المشركين ما طلبوا منهم من التفوه بكلمة الكفر، وفيهم نزلت ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106].
وقل مثل ذلك في زنّيرة وأم عمارة وصفية بنت عبد المطلب .. وغيرهن.
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾[التحريم: 11].
• والمرأة الثانية الصالحة في المثل المضروب للنماذج الحسنة مريم ابنة عمران عليها السلام.
إنها تمثل نموذج الفتاة الصالحة التي نشأت في بيت طاعة وفي بيئة صالحة في كنف نبي من أنبياء الله تعالى زوج خالتها نبي الله زكريا عليه السلام حيث قام بكفالتها ورعاية شؤونها.
إنها مثال النبل والطهر والعفاف والتقوى منذ نعومة أظفارها فكان تكريم الله تعالى لها أن تحمل بعيسى عليه السلام من غير أب فتكون هي وابنها آية للناس.
إن النموذج الحسن للمرأتين الصالحتين أبرز ما فيهما ترفعهما عن زينة الحياة الدنيا وشهواتها ومتعها.
فامرأة فرعون تمثل نموذج المترفعات عن الجاه واللذة والمتاع والزينة والخدم والحشم والقصور فآثرت ما عند الله على غيره، وآثرت اللذة الخالدة على اللذة الفانية.
• ومريم ابنة عمران تمثل النموذج المترفع عن شهوات الفرج فأحصنت فرجها. فأكرمها الله سبحانه وتعالى بإرسال روحه لينفخ فيها.
والمتعة الجنسية المزلق الثاني الذي تنزلق فيه المرأة وتكون الفتنة عن طريقها.
والتكريم كل التكريم للمترفعات عن متع الدنيا وشهواتها بشقيها شهوة البطن وشهوة الفرج.
وإيثار الحياة الباقية وملذاتها على الحياة الفانية وشهواتها.
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].
[1] في صحيح البخاري: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد, وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.
انظر الصحيح، كتاب الأنبياء (4/ 132).