من دوافع الغزو الفكري: عداوة الغرب للإسلام

شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.

هناك دوافع حملت الغرب على اللجوء للغزو الفكري وأسباب أدت إليها منها ما يلي:

أ. عداوة الغرب للإسلام

لم يعد خافياً على أحد مدى العداوة المستحكمة التي يكنها الغرب للإسلام، وقد حاول الغربيون أن يوهموا المسلمين بأن العداوة أو الصراع بينهما عداء سياسي لا ديني حتى لا يلتفَّ المسلمون حول دينهم، ويتحدوا في وجههم، وقد خدع البعض من المسلمين فاعتقدوا أن هذا العداء يرجع إلى أسباب سياسية واقتصادية.

وإذا سلمنا بذلك من الناحية الشكلية فإننا نرى أن جوهر الصراع ومحوره إنما هو الدين.

يذكر الدكتور أحمد أمين أن العالم النصراني على اختلاف أممه وشعوبه هو عدو قاس مناهض للشرق على العموم وللإسلام على الخصوص، فجميع الدول النصرانية متحدة معاً على دك الممالك الإسلامية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، والروح الصليبية كامنة في صدور النصارى كمون النار في الرماد، وروح التعصب لم تنفك حية معتلجة في قلوبهم حتى اليوم كما كانت في قلب بطرس الناسك من قبل، فالنصرانية لم يزل التعصب مستقراً في عناصرها، متغلغلاً في أحشائها، متمشياً في كل عرق من عروقها.

وجميع هذه الشعوب النصرانية مجتمعة متفقة على عداء الإسلام، وروح هذا العداء متمثلة في جهد هذه الشعوب جهداً خفياً مستتراً لسحق الإسلام، ومما يقوم شاهداً على أن العداء ديني ما جاء في النشيد الإيطالي من قوله:

أماه صلي ولا تبكي.. بل اضحكي .. ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني؟ .. أنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً ومسروراً… لأبذل دمي في سحق الأمة اللعينة، ولأحارب الديانة الإسلامية.. سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن.. إن سألك أحد عن عدم حدادك علي .. فأجيبيه إنه مات في محاربة الإسلام[1].

ومما يؤكد على أن العداء ديني أيضاً ما شاهدناه ولا نزال نشاهده من أحداث الصراع بين الغرب والشرق، حيث نجد روح القسوة والتشفي من المسلمين التي بدت واضحة في انتصارات الغربيين، فقد نكلوا بهم وشردوا كثيراً منهم، وحاربوهم في أعمالهم وأرزاقهم في كل ميدان، بينما لم يفعلوا ذلك بمن يعيش معهم في وطن واحد.

ويتضح هذا بصورة جلية فيما فعله الإنجليز في الهند مع جماعة الهندوس والمسلمين فبينما كانوا يعاملون الجماعة الأولى بشيء من اللين إذ بهم يسيئون إلى المسلمين ويقسون في معاملتهم ومحاربتهم في شتى المجالات[2].

ب. عداوة الغرب للإسلام عميقة الجذور

وقد أشار محمد أسد – وهو من الأوروبيين الذين أسلموا – إلى أن موقف الأوروبي من الإسلام ليس موقف كره في غير مبالاة فحسب كما هي الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات، بل هو كره عميق الجذور، يكون في الأكثر على صدود من التعصب الشديد، وهذا الكره ليس عقلياً فحسب، ولكنه يصطبغ أيضاً بصبغة عاطفية قوية.

ويذكر أنه لا قد لا تتقبل أوروبا تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوسية، ولكنها تحتفظ دائماً فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن ومبني على التفكير، إلا أنها حالما تتجه إلى الإسلام يختل التوازن ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب، حتى إن أبرز المستشرقين الأوروبيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام، ويظهر في جميع بحوثهم على الأكثر، كما أن الإسلام لا يمكن أن يعالج على أنه موضوع بحث في البحث العلمي، بل على أنه متهم يقف أمام قضاته[3].

ج. العداوة ترجع إلى الحروب الصليبية

ويذكر محمد أسد أن هذا التحامل من المستشرقين على الإسلام غريزة موروثة وخاصية طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية بكل ما لها من ذيول في عقول الأوروبيين، حيث أحدثت هذه الحروب أثراً من أعمق الآثار وأبقاها في نفسية الشعب الأوروبي، وأثارت حمية جاهلية عامة لا يمكن أن تقارن بشيء خبرته أوروبا من قبل ولا اتفق لها من بعد.

بل إن الصليبيين قطعوا الصلات التي كادت أن تقوم بين الإسلام والغرب من قبل بين هارون الرشيد وبين الإمبراطور شارلمان، ولم يكن ذلك لأنهم راموا الحرب، فإن حروباً كثيرة كانت قد نشبت بين الشعوب، ثم نشبت فيما بعد على مدى التاريخ الإنساني، وكم من عداوة انقلبت بعد ذلك إلى صداقة إلا أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح، ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شراً ثقافياً.

لقد نشأ تسميم العقلي الأوروبي عما شوهه قادة الأوروبيين من تعاليم الإسلام ومثله العليا أمام الجموع الهائلة في الغرب[4]، وقد كان هذا التشويه الخطير من أخطر جنايات الكنيسة حيث قامت بدعايتها الكاذبة ضد الإسلام طوال الحروب الصليبية وبعدها، وتصويرها له بصورة الدين الوثني المتخلف المنحرف، مما عبأ النفس الأوروبية عامة بعقدة الكراهية العارمة، والمقت البالغ للإسلام والمسلمين، يتوارثونها كأنها من المسلمات البدهية بلا فهم ولا تمييز، ولا تزال هذه الروح سارية في أغوار النفس الأوروبية إلى يومنا هذا[5].

ويرد محمد أسد على من يتعجب من استمرار هذا النفور القديم والذي انبعث من الدين بالرغم من فقدان الأوروبيين الشعور الديني في هذا العصر، فيذكر أنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقاها أثناء طفولته بينما تظل بعض الخرافات الخاصة – والتي كانت من قبل تدور حول تلك الاعتقادات المهجورة – في قوتها تحت كل تحليل عقلي في جميع أدوار ذلك الإنسان وهذه هي حال الأوروبيين مع الإسلام.

فعلى الرغم من أن الشعور الديني الذي كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء للاستشراف على حياة أكثر مادية، فإن النفور القديم نفسه قد بقي عنصراً من الوعي الباطني في عقول الأوروبيين.

وينتهي محمد أسد إلى أن روح الحروب الصليبية – في شكل مصغر على كل حال – مازال يتسكع فوق أوروبا، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفاً يحمل آثاراً واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال[6].

وإذا كان العداء – كما رأينا – عداءاً دينياً في المقام الأول فإن الغرب المستعمر قد حرص منذ أول الأمر على القضاء على الإسلام وبخاصة، وأنه يعتبر الأساس الأول في القومية الإسلامية، فكان لا بد من إزاحته من طريقهم فكان اللجوء إلى الغزو الفكري حتى يضمنوا سيطرته على المسلمين وتبعيتهم له في جميع الميادين.


[1] راجع كتاب “يوم الإسلام” ص109-111، مكتبة النهضة المصرية.

[2] راجع دراسات الفكر الإسلامي الحديث للدكتور عبدالمقصود عبدالغني، ص95-96.

[3] راجع الإسلام على مفترق الطرق، ص52-53.

[4] راجع المصدر السابق، ص56، راجع أيضاً التبشير والاستعمار في البلاد العربية: مصطفى الخالدي وعمر فروخ، ص36.

[5] ولعل هذا أحد الأسباب التي حالت بين أوروبا والإسلام، حتى بعد تمردها على الكنيسة، فارتدت إلى أصولها الوثنية، وأحيت تراث الرومان القائم على إلحادية مادية، فصارت أوروبا بذلك أعجب مركب حضاري، أخذ من الإسلام روحه الحضارية، ومن اليونان والرومان مثله وقيم حياته الجديدة، التي قامت على أنقاض مجتمع الكنيسة ودينها المهزوم. (راجع الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ص26-27).

[6] راجع المصدر السابق، ص61.