من آداب التعامل مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم

قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا * لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 50، 53].

 

شرح المفردات:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾:

كانت النساء مُباحات لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – عدا المحارم بطبيعة الحال – بشرط إيتاء المرأة مهرها، إلا أن الأمر ضُيِّق بعد هذا الإطلاق؛ تكريمًا لزوجات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اللاتي اخترنَ اللهَ ورسوله والدار الآخرة، فحُصِرت الإباحة في القريبات المهاجرات، فكانت خطوة للتحديد، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم – يتزوج في أي الناس شاء، وكان يشُقُّ ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية: ﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾، وحرِّم عليه بها النساء إلا من سُمِّي، سُرَّ نساؤه بذلك[1].

 

﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾:

أَحَلَّ الله لهذه الأمة التَّسرِّي، ومِلك اليمين: هي الإماء اللاتي وقعن في أيدي المسلمين من المرافقات لجيش العدو في أرض المعركة، سواء كانت مُقاتِلة أو قائمة بأي مجهود حربي، أما نساء المشركين اللاتي لم يحضرن أرض المعركة، فلا يجوز أخذهن أسيرات، ولا التَّسري بهن؛ فهن حرائر.

 

﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ [2] اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ :

وخُصِّصن بالذكر ها هنا – وهن داخلات في الأزواج اللاتي آتاهن أجورهن – زيادة في تشريفهن؛ لقرابتهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا أولاً، والأمر الآخر لذِكر القيد الذي ذكِر، وهو ﴿ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾.

 

تقول أم هانئ بنت أبي طالب – وهي ابنة عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشقيقة علي-: “خطَبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعتذرتُ[3] إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾، فلم أكن أَحِل له؛ لأني لم أهاجر، كنت من الطلقاء”[4].

 

وفي هذا تكريم للمهاجرات من المؤمنات يقول – جل شأنه -: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ [الأنفال: 72]، فالتي لم تهاجر لم تكمُل، والتي لم تكمل لا تصلُح لرسول الله – صلى الله عليه وسلم[5].

 

﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾:

هذه إحدى خصائص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فله أن يقبل المرأة التي تَهَب نفسها إليه من غير صداق، أو أن يردها، وليس ذلك لأحد من المسلمين، اختلف العلماء: هل كان عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واحدة من اللاتي وهَبْن أنفسهن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم؟

 

جاء في صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “كنت أغار على اللاتي وهبْن أنفسهن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقول: أما تَستحيي امرأة تهَب نفسها لرجل؟! حتى أنزل الله -تعالى-: ﴿ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ فقلت: والله ما أرى ربك إلا يُسارِع في هواك.

 

وذكَر الإيمان في قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً)، فإن الكافرة لا تَحِل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لجانب النقص فيها، فإذا كانت غير المهاجرة لا تحِل له لنُقصان فضل الهجرة، فأحرى ألا تحِل له الكافرة الكتابية؛ لنُقصان الكفر.

 

والحكمة في ذِكر تخيير النبي – صلى الله عليه وسلم – بين القَبول والرد؛ لأن من مكارم الأخلاق أن يقبل الكريم من الواهب هبتَه، ويعتبر رد الهبة هُجْنة ووصمة على الواهب، وأذية لقلبه، فبيَّن الله -تعالى- ذلك في حق رسوله – صلى الله عليه وسلم – وجعله قرآنًا يُتلى ليرفع عنه الحرج، وهكذا في سائر المَواطِن التي يصيب النبيَّ حرجٌ في البيان والدفاع عن النفس، يتولَّى القرآن الدفاع عنه، وهذا من أنواع التكريم والتبجيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم.

 

﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾:

فرَض الله على المؤمنين ألا يتزوَّجوا إلا أربع نِسوة بمهر وبينة وولي، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – وُسِّع له في ذلك، ولكيلا يضيق قلبه، ويظهر أنه قد أثِم عند ربه، فبين الله هذا البيان لرفع الحرج عنه، ولكيلا يقع المؤمنون في مِثل هذه الظنون، وهذا أيضًا من المَواطن التي تولَّى القرآن التوضيح والبيان؛ تكريمًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم.

 

﴿ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾:

ذهَب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية توسعة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإباحة له في شأن الزوجات، ولكنهم اختلفوا في تحديد هذه التوسعة على أقوال:

1- أنه بشأن القَسْم بين النساء، فأبيح له ترك القَسم عندهن بالسواسية، ولكنه كان يَقسِم من نفسه من غير أن يكون ذلك واجبًا عليه؛ تطييبًا لنفوسهن، وصونًا لهن عن أقوال الغَيرة.

 

2- وقيل: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – همَّ بطلاق نسائه، فقلن له: اقسم لنا ما شئت، فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكانت قِسمتهن من نفسه وماله سواءً بينهن، وكان ممن أرجى سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان يَقسِم لهن ما شاء.

 

3- وقيل: المراد: الواهبات أنفسهن، له أن يرد من شاء منهنَّ، أو يؤوي من شاء منهن.

 

4- وقيل: إن التخيير لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشأن طلاق مَن شاء من أزواجه اللائي في عصمته، وإمساك من شاء، ورجَّح القرطبي وابن العربي القول الأول، وأنه بخصوص القَسْم بين زوجاته، فيكون المراد بـ: “من ابتغيت ممن عزَلت”: أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القِسمة، وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك.

 

﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴾:

هذا التخيير الذي شرَعه الله لرسوله في صحبة أزواجه أقرب إلى رضاهن؛ إذ كان أمرًا من الله – تعالى؛ لأنهن إذا علِمن أن هذا الأمر ليس من البشر، وأنهن لا حق لهن في المطالبة بالقسمة – رَضَيْنَ بما أوتين وإن قل.

 

فكان ما فعَل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقربَ إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلَّق قلوبهن بأكثر منه[6].

 

وعلى الرغم من هذا التخيير والتوسعة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنه كان يشدِّد على نفسه في رعاية التسوية بينهن؛ تطييبًا لقلوبهن، ويقول: ((اللهم هذه قدرتي – وفي رواية قَسْمي- فيما أملِك، فلا تلمني فيما تملِك ولا أملك))[7]، يعني: المَيل القلبي، وفي مرَضه الذي انتقَل فيه إلى الرفيق الأعلى كان يُطاف به محمولاً على بيوت أزواجه، وكان يتطلَّع إلى ليلته عند عائشة ويقول: ((أين أنا اليوم؟ أين أنا غدًا؟))؛ فأدركت أمهات المؤمنين رغبته فتنازلنَّ له، ليمرَّض في بيت عائشة، فتوفِّي فيه، ودفِن فيه.

 

﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾:

لما خيَّر رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – نساءه فاخترنه، حُرِّم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فِعلهن[8]، واختلف العلماء في نسْخ هذه الآية أو بقاء الحكم، وهل هذه متأخرة في النزول أو الآية، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾، وجمهور العلماء على أن هذه الآية منسوخة، واختلفوا في الناسخ لها، فقيل: الآية المتقدِّمة: ﴿ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾، وقيل: منسوخة بالسُّنة؛ كما جاء في قول عائشة وأم سلمة: “ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أَحَل اللهُ له أن يتزوَّج من النساء من شاء إلا ذات محرم”.

 

والمراد بـ: ﴿ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ﴾، قال ابن زيد: “هذا شيء كانت العرب تفعله”، روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: “كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: انزِل لي عن امرأتك، وأنزِل لك عن امرأتي وأَزيدك، فأنزل الله -تعالى-: ﴿ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ﴾، قال فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وعنده عائشة، فدخل بغير إذْنٍ، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا عيينة، فأين الاستئذان؟))، فقال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هذه عائشة أم المؤمنين))، قال: أفلا أَنزِل لك عن أحسن الخلْق، فقال: ((يا عيينة، إن الله قد حرَّم ذلك))، قال فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله من هذا؟ قال: أحمق مطاع، وإنه على ما تَرين لسيَّدُ قومه[9].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾:

هذا موضِع من المواضع التي كان يتحرَّج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيها مع المسلمين، وكان يستحيي أن يحتجِب عنهم، وربما دخلوا عليه بدون استئذان، وربما تحيَّنوا وقت إهداء الطعام إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيتعرَّضون له وأصحاب المخمصة ربما تعرَّضوا له بالأسئلة رجاء أن يُصيبوا شيئًا من عنده، فتولَّى الله – سبحانه وتعالى – الأمر، وأدَّبهم بالآداب التي لا توقِع رسوله في حرجٍ مع الناس في أمر الطعام والجلوس والحجاب.

 

قال حماد بن زيد: “هذه الآية نزلت في الثقلاء”.

وسبب نزول هذه الآية ما أخرَجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أنس – رضي الله عنه – قال: لما تزوَّج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش – رضي الله عنها – دعا القوم، فطعِموا ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلمْ يقوموا، فما رأى ذلك قام، فلما قام، قام مَن قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئتُ فأخبرت النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ ﴾.

 

﴿ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾:

وكان بعضهم يجيء فيدخل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فيجلسون ويتحدثون ليُدرك الطعام، فنزلت، فنُهوا أن يتحيَّنوا نُضج الطعام، فيحضروا إلى بيت النبي – صلى الله عليه وسلم.

 

وإذا دعاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى طعام أُمروا بالانتشار بعد الأكل، وألا يجلسوا للاستئناس بالحديث.

 

﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾:

إن كان صاحب الدار يُحرَج من إظهار ضيقه بما يفعله الثقلاء، فإن الله لا يستحيي أن يقرِّر الحق ويُظهره، وعلى المسلمين ترك المألوفات والعادات التي لا تتماشى مع الأخلاق الإسلامية الرفيعة؛ فالآداب الإسلامية كلها تراعي الذوقَ السليم والفطرة المستقيمة والعقل الناضج.

 

﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾:

آية الحجاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة؛ كما في الحديث الصحيح بعد زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم – بزينب بنت جحش، وقد كان عمر – رضي الله عنه – يطلب من رسول -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب الحجابَ على نسائه، ويقول: إنه يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، إلى أنِ استجاب الله طلب عمر، وهي من الموافقات التي قال عنها ابن مسعود – رضي الله عنه -: “فَضَل الناسَ عمرُ بن الخطاب – رضي الله عنه – بأربع:

• بذِكره الأُسارى يوم بدر؛ أمَر بقتلهم؛ فأنزل الله -تعالى-: ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 68].

 

• وبذكر الحجاب، فأنزل الله -تعالى-: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾.

 

• وبدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم أيَّد الإسلامَ بعمر)).

 

• وبرأيه في أبي بكر، كان أول الناس بايعه”.

 

ومن موافقته أيضًا عندما قال: يا رسول الله، هلا اتَّخذنا مَقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله -تعالى-: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾.

 

وقوله -تعالى-: ﴿ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾؛ أي: ذلك أنفى للرِّيبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية، وأصغى للقلوب من الخواطر والوساوس التي تعرِض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال.

 

﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾:

أخرَج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن رجلاً أتى بعض أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – فكلَّمها وهو ابن عمها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا))، فقال: يا رسول الله، إنها ابنة عمي، والله ما قلت لها منكرًا، ولا قالت لي، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((قد عرفتُ ذلك، إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني))، فمضى، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي، لأَتزوَّجُها من بعده، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية: فأعتَق ذلك الرجلُ رقبةً، وحمَل على عشرة أبعِرة في سبيل الله، وحج ماشيًا من كلمته[10]، وأخرج البيهقي في السنن عن حذيفة – رضي الله عنه – أنه قال لامرأته: إن سَرَّك أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تتزوَّجي بعدي؛ فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا؛ فلذلك حرم أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُنكحن بعده؛ لأنهن أزواجه في الجنة”[11].

 

خصوصيات لرسول الله – صلى الله عليه وسلم:

1- وهبة المرأة نفسها للرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير صداق:

ورد ذلك في قوله -تعالى-: ﴿ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأحزاب: 50].

 

2- قبوله الهدية وتحريم الصدقة عليه وعلى آل بيته: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33].

 

جاء في حديث سلمان الفارسي – رضي الله عنه – يذكر ما أوصاه به صاحب عمورية بقوله: “أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلَّك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل”[12].

 

3- النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وتحريم نكاحهن من بعده:

وذلك بالنص الصريح في قوله -تعالى-: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6].

 

وكما في قوله -تعالى-: ﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 53].

 

وفي الحديث المتفق عليه: (( أنا أَولى بالمؤمنين من أنفسهم))[13].

 

4- رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَمَنة لأمته:

قال الله -تعالى-: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33].

 

وهذه خصوصية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – من بين سائر الأنبياء – عليهم السلام – فعذِّبت أمم كثيرة مع وجود أنبيائهم بينهم، وقد نزلت الآية السابقة عندما قال بعض كفار قريش: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32].

 

وفي حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: ((النجوم أمَنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعَد، وأنا أمَنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ، أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أمَنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدون))[14].

 

5- عموم رسالته، وكونه رحمة للعالمين:

كان النبي في الأمم السابقة يُرسل إلى قومه خاصة، وبُعِث رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- للعالمين:

قال الله -تعالى-: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28].

 

وفي حديث جابر – رضي الله عنه -: ((وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثِت إلى الناس عامة))[15].

 

6- تكفَّل الله – عز وجل – بحفظه وعِصمته من الناس:

يقول – عز من قائل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].

 

ولما نزلت هذه الآية صرَف رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – الصحابة الذين كانوا يحرسونه، وقال: ((إن الله عصمني من الناس)).

 

وقال -تعالى-: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 94 – 96].

 

7- النهي عن مناداته باسمه:

أمر الله – سبحانه وتعالى – هذه الأمة باحترام رسولها وتقديره وتبجيله؛ فنهى عن مناداته باسمه بل مناداته بلقب الرسالة والنبوة، قال -تعالى-: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].

 

قال ابن عباس وغيره: “كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم؛ فنهاهم الله – عز وجل – عن ذلك إعظامًا لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وأمَرهم أن يقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله”[16].

 

8- عدم رفع الصوت فوق صوته:

ومن صور الاحترام والتبجيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – عدم رفع الصوت بحضرته، قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].

 

9- تقديم الصدقة بين يدي نجواهم له:

ومن صور التبجيل والاحترام أمرهم إذا أرادوا مناجاته – وكانوا قد أكثروا – أن يقدِّموا بين يدي مناجاتهم له -صلى الله عليه وسلم- صدقة، وعلى الرغم من نسْخ هذا الحكم إلا أن بقاء تلاوة الآيات التي ذكِر فيها ذلك، كان له أثر تربوي في نفوس الصحابة – رِضوان الله عليهم – يقول – عز من قائل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 12، 13].

 

10- الإسراء والمعراج:

مما خصَّ الله به رسوله الإسراء به إلى المسجد الأقصى، وما أكرَمه الله به من جعله إمامًا للأنبياء في بيت المقدس، وما أراه الله من الآيات الكبرى؛ كما نصَّ عليه قوله -تعالى-: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].

 

وحادثة المعراج التي جاءت الإشارات إليها في أكثر من سورة؛ كما في قوله -تعالى-: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 3 – 18].

 

كما جاءت تفصيلات حادثة المعراج في أحاديث كثيرة صحيحة.

 

11- المعجزة الدائمة الخالدة:

من سنة الله – سبحانه وتعالى – في النبوات أن يعطي النبيَّ معجزة تُثبِت صدقه وتُقيم الحُجة على قومه، وكانت معجزات الأنبياء السابقين معجزات مادية حسيَّة، مثل: قلْب العصا ثعبانًا، وجعْل اليد بيضاء من غير سوء، وانفلاق البحر لموسى – عليه السلام، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى – عليه السلام – وغيرها من المعجزات، إلا أنها انتهت بانتهاء النبي، ولم يبقَ إلا الحديث عنها، وقد أوتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من هذه المعجزات المادية الحسية الشيء الكثير، مِثل: انشقاق القمر، ونبْع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام، وحنين الجذع، وسلام الجمادات والحيوانات عليه.

 

إلا أن المعجزة التي انفرد بها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – من بين سائر الأنبياء وهي معجزة معنوية باقية خالدة هي القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، لا ينضُب مَعِينه، ولا تنقطع عجائبه، وهو المحفوظ بحفظ الله له من التحريف والتغيير والتبديل.

 

يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الأنبياء من نبي إلا أُعْطِيَ من الآيات ما مِثْلُه آمَنَ عليه البشرُ، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة))[17].

 

12- غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر:

أخبر الله – سبحانه وتعالى – بهذه المغفرة في حياته قبل مماته، وهذا شيء لم يحدث لأحد من البشر قبله ولا بعده؛ يقول الله – عز وجل -: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 1 – 3].

 

وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في الشفاعة، فيقولون: ((يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك))[18].

 

ما يُستفاد من الآيات الكريمة:

1- تكريم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من قِبَل ربه – جل جلاله – وتبجيله؛ حيث تولَّى الدفاع عنه في مواطن كثيرة؛ عندما اتَّهمه المشركون بالجنون والكهانة والشعر، وفي كل موطن يشعر بالحرَج في بيان الحقيقة والواقع، مثل: حادثة الإفك، والنجوى، ودخول بيوته وانتظار الطعام، ورد الواهبة نفسها له.

 

2- الأصل في الشرائع أن تكون عامة للأمة، إلا إذا ورد دليل على أنها خاصة برسول الله -صلى الله عليه وسلم – مِثل: تحريم الكتابية عليه، وتحريم المشرِكة مِلْك اليمين عليه، وإباحة الزواج له بأكثر من أربع نِسوة في وقت واحد، وجواز قَبوله الواهبة نفسها له، وغيرها من الخصوصيات.

 

3- فضل الهجرة في سبيل الله للرجال والنساء، والهجرة العامة المفروضة انقطعت بفتح مكة؛ حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا هجرة بعد الفتح))، إلا أن الهجرة في سبيل الله – إذا شعر المسلم بالتضييق عليه في ممارسة شعائر دينه، أو التضييق عليه في الدعوة إلى الله- باقية مستمرة لا تنقطع إلى يوم القيامة.

 

4- إذا كان المرء في موضِع القدوة عليه أن يحرص على إزالة أي شائبة من نفوس أتباعه تجاه تصرفاته بمصارحتهم بالحقيقة؛ لكيلا يجِد الشيطان سبيلاً إلى الوساوس والخاطِرات في نفوسهم.

 

5- وجوب الصداق والولي والبيِّنة في الزواج تشريعٌ مطالبة به الأمة، والإعفاء من ذلك خصوصية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم.

 

6- من تكريم الإسلام للمرأة أن صانها من الابتذال، ووفَّر لها الحياة الآمنة في صيانة الزوج أو الولي، وأبعدَها عن مواطن التُّهمة بتشريع الحجاب.

 

7- تحريم نكاح زوجاته – صلى الله عليه وسلم – بعد وفاته؛ لأنهن أمهات المؤمنين، وهن زوجات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.

 

مما ذكره القرطبي في تفسيره في خصوصيات رسول الله – صلى الله عليه وسلم:

1- فرض أشياء عليه لم تُفرض على غيره.

2- حرِّمت عليه أشياء لم تحرَّم على غيره.

3- حُلِّلت له أشياء لم تحلَّ لهم.

 

أولاً: مما فرض عليه، ولم يُفرَض على غيره:

1- التهجد بالليل كان واجبًا عليه إلى أن مات؛ لقوله -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1، 2]، وقيل: نُسِخ بقوله: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ﴾ [الإسراء: 79].

 

2- صلاة الضحى.

 

3- الأضحى؛ أي: الأضحية.

 

4- الوتر، وقيل: هو داخل في التهجد.

 

5- السواك.

 

6- قضاء دَين مَن مات معسِرًا.

 

7- مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع.

 

8- تخيُّر النساء.

 

9- إذا عمِل عملاً أثبته.

 

10- إذا رأى منكرًا أنكره وأظهره؛ لأن السكوت إقرار ويدل على جوازه.

 

ثانيًا: ما حرِّم عليه:

1- تحريم الزكاة عليه وعلى آله.

 

2- تحريم صدقة التطوع عليه وعلى آله، على خلاف بين العلماء في الآل.

 

3- تحريم خائنة الأعين: وهو أن يُظهر خلاف ما يُضمر، أو ينخدع عما يجيب.

 

4- إذا لبِس لأْمَته، حرم أن يخلعها، حتى يحكم الله بينه وبين مُحاربه.

 

5- الأكل مُتكئًا.

 

6- أكل الأطعمة الكريهة الرائحة.

 

7- التبدل بأزواجه.

 

8- نكاح امرأة تكره صُحبته.

 

9- نكاح الحرة الكتابية.

 

10- نكاح الأَمَة.

 

11- الكتابة وقول الشعر وتعلُّمه؛ وذلك تأكيدًا لحجته وبيانًا لمعجزته؛ قال -تعالى-: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48].

 

12- وحُرِّم عليه أن يَمُد عينيه إلى ما متِّع به الناس؛ لقوله -تعالى-: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم ﴾ [طه: 131].

 

ثالثًا: ما أُحِل له – صلى الله عليه وسلم – ولم يُحَل لغيره:

1- صفي المغنم.

 

2- الاستبداد بخُمس الخمس أو الخُمس.

 

3- الوصال في الصوم.

 

4- الزيادة على أربع نِسوة.

 

5- النكاح بلفظ الهِبة.

 

6- النكاح بغير ولي.

 

7- النكاح بغير صداق.

 

8- نكاحه في حالة الإحرام.

 

9- سقوط القَسْم بين الأزواج عنه.

 

10- أنه أعتق صفية وجعل عِتقها صداقها.

 

11- دخول مكة من غير إحرام.

 

12- القتال بمكة.

 

13- أن لا يورث.

 

14- بقاء زوجيَّته من بعد الموت.

 

15- إذا طلَّق امرأة تبقى حرمته عليه فلا تُنكح.

 

ومن الخصوصيات له والأمَّة تَبَع له:

1- تحليل الغنائم له ولأمته.

 

2- جعلت الأرض له ولأمته مسجدًا أو طهورًا.

 

3- نُصرته بالرعب لمسيرة شهر.

 

4- بُعِث إلى كافة الخلق.

 

5- جعِلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله، وزاد عليهم بالمعجزة الباقية (القرآن الكريم)؛ باختصار وتصرُّف من تفسير القرطبي 14/ 211- 213.


[1] تفسير القرطبي 14/ 207.

[2] فائدة: جاء ذكر العم مفردًا، وكذلك الحال، أما العمات والخالات فجاءت جمعًا، والحكمة في ذلك أن العم والخال اسم جنس، وليس كذلك العمة والخالة.

[3] جاء في بعض الروايات: قالت: إني امرأة مصبية؛ أي: ذات صبيان، وفي بعضها: قالت: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من سمعي وبصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى أن أضيِّع حق الزوج.

[4] هم أهم مكة الذين قال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم فتح مكة: ما تظنون أني فاعِل بكم اليوم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))؛ أي: أحرار.

[5] انظر: تفسير القرطبي 14/ 208.

[6] تفسير القرطبي 14/ 206.

[7] رواه أبو داود.

[8]تفسير القرطبي 14/ 206.

[9] تفسير القرطبي 14/ 220.

[10] الدر المنثور؛ للسيوطي 6/ 644.

[11] الدر المنثور؛ للسيوطي 6/ 644.

[12] رواه الإمام أحمد في المسند 5/ 441، وانظر كتاب عظيم قدره – صلى الله عليه وسلم – ورفعة مكانته عند ربه عز وجل؛ للدكتور: خليل إبراهيم ملا خاطر.

[13]أخرَجه البخاري في كتاب الكفالة باب الدين، ومسلم في كتاب الفرائض.

[14]رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة.

[15] متفق عليه: رواه البخاري في كتاب التيمم، ومسلم في كتاب المساجد.

[16]انظر الدر المنثور للسيوطي 6/ 230.

[17] رواه البخاري ومسلم.

[18] متفق عليه.