شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
حينما نتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”[1] ندرك تمام الإدراك منزلة الأخلاق وأهميتها في نظر الإسلام حيث جعل صلى الله عليه وسلم أهداف بعثته مقصورة على إتمام مكارم الأخلاق، وأن مجيئه بالإسلام يتلخص في إتمام البناء الأخلاقي الذي شيده من سبقه من الأنبياء والمرسلين حيث يقول في حديث آخر: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله – وفي رواية: بنى داراً فأتمها وأكملها – إلا موضع لبنة فجعل يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”[2].
ومعنى ذلك أن هدف الرسالات الإلهية التي جاء بها هؤلاء الأنبياء هدفٌ أخلاقي في المقام الأول، لأنها تستهدف إرشاد الإنسان إلى طريق الخير وإبعاده عن الشر في الدنيا وسوء العاقبة في الآخرة.
وقد تجمعت مكارم الأخلاق، وأمهات الفضائل فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله عز وجل بأن يقتدي بالأنبياء السابقين وأن يهتدي بهداهم فقال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وهذا الهدى المأمور به ليس هو معرفة الله، وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم، فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم فكان كل واحد منهم مختصاً بنوع واحد، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله لا جرم وصفه الله بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4][3]، وإذا علمنا أن الله عز وجل لم يصف أحداً من أنبيائه السابقين بالخلق العظيم، وإنما وصف كل واحد بأوصاف أخر مثل رشيد وتقي وحليم وما إلى ذلك علمنا السر في ذلك، والذي أدركه أكثم بن صيفي أحد حكماء العرب الذي قال عندما دعا قومه إلى الإسلام: “إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن ديناً لكان في أخلاق الناس حسناً”[4].
ومن أجل ذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدين يتمثل في حسن الخلق، وأخبر أن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان، وأن صاحبه أحب الناس على الله وأقربهم من النبيين مجلساً حيث يقول عليه الصلاة والسلام: “ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة” [رواه أبو داود والترمذي]، ويقول: “ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، قالوا: بلى، قال: أحسنكم خلقاً” [ابن حبان ومسند أحمد]، وقال: “أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق”[5].
وإذا كان نبي الإسلام دعا إلى عبادات شتى، وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين، وإذا كان مع سعة دينه، وتشعب نواحي العمل أمام أتباعه يخبرهم بأن أرجح ما في موازينهم يوم الحساب الخلق الحسن، فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق في الإسلام لا تخفى.
وهكذا فإن للأخلاق في نظر الدين عامة والإسلام خاصة محلاً رفيعاً ومكاناً فسيحاً، ولا عجب أن رأينا من محققي علماء الإسلام رجلاً مثل ابن القيم يقول: “الدين هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين”[6].
[1] رواه الإمام مالك في الموطأ، وفي رواية (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] راجع التفسير الكبير للفخر الرازي، ج30، ص80.
[4] راجع التربية الأخلاقية الإسلامية للدكتور مقداد يالجن، ص96.
[5] راجع جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص195.
[6] راجع خلق المسلم، ص14، والإيمان والحياة، ص173-174.