مسؤولية الرجل عما تحت رعايته

دور القدوة في تربية الأسرة

مسؤولية الرجل عما تحت رعايته

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التحريم: 6، 9].

المناسبة بين هذا المقطع وسابقه:

بعد أن جاء الوعيد الرهيب للمتظاهرتين والتلميح بالطلاق لهن والإبدال بهن غيرهن جاء في هذا المقطع فتح باب الرجاء والتوبة وتدارك الفرصة قبل فوات الأوان وبدأ المقطع بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين وبيان دورهم في وقاية أنفسهم وأهليهم النار.

 

ومن المعروف في الأسلوب القرآني اتخاذ الحادثة الجزئية سبيلاً إلى التعميم وسوق الهدايات الشاملة إلى الإنسانية، فمن حادثة المتظاهرتين إلى مخاطبة المؤمنين إلى مخاطبة الكافرين والناس عامة.

 

وكذلك من الأسلوب القرآني الجمع بين الترغيب والترهيب، وهما جناحا التقوى والهداية، كجناحي الطير إن فقد أحدهما لم يتم الطيران والسير الصحيح ويختم هذا المقطع بتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اتخاذ الموقف المناسب من الكفار والمنافقين، ومجاهدتهم بالوسائل المناسبة لأحوالهم من الإعراض عنهم أحيانًا وتوجيه الموعظة البليغة لهم والتعنيف والتوبيخ لهم تارة والتهديد والوعيد تارة، والقتال والتشريد أخرى، حتى يثوبوا إلى رشدهم ويقلعوا عن دسائسهم وتآمرهم وإلقاء البلبلة والفتن في المجتمع الإسلامي.

مسؤولية الرجل عما تحت رعايته:

إن مسؤولية المؤمن عن أهله كمسؤوليته عن نفسه، فهو الراعي الذي استرعاه الله سبحانه وتعالى شؤون هذه الرعية كما نص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ذلك في قوله “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته… والرجل راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلم راعٍ ومسؤول عن رعيته”[1]. وفي هذه التسمية والتشبيه بالراعي لطائف وإشارات من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أوتي جوامع الكلم نشير إلى بعضها:

• إن راعي الغنم يرتاد لها المرعى الخصب الذي يعود عليها بالنفع من غير أن يلحقها الأذى. وكذلك المؤمن الذي يحرص على وقاية أهله من النار، عليه أن يسعى عليهم بالكسب الحلال المستساغ الذي لا يلحق بهم ضررًا في صحتهم وفي دينهم.

 

• وبهيمة الأنعام تنقاد لراعيها من غير مجادلة أو اعتراض بل تتوجه إلى حيث يوجهها فكذلك الأهل فهم مستسلمون منقادون لرب الأسرة ما دامت الثقة متوافرة والأمل معقودًا في حكمته وحرصه عليهم وعدم تفريطه فيهم.

• إن من شأن الراعي أن يداوي مرضاها ويهنأ جرباها ويشملها بعنايته في كل شؤونها.

 

وكذلك رب البيت مسؤول عن كل ما يدفع الأذى عن أهل بيته ويوفر لهم سلامة الأبدان والأديان، ويضمن لهم التوجيه الصحيح والسلوك المستقيم.

 

• والراعي يجنب غنمه المسبعة والمذأبة والمهلكة ويدافع عنها مخاطر العوادي.

 

وكذلك رب الأسرة يجنب أهل بيته المهالك المادية والمعنوية، فيجنبهم مصارع السوء ومباءة الرذيلة والانحراف والمفاسد الخلقية والمزالق العقدية.

 

وكما تكون الرعاية والقوامة والعناية بتوفير وسائل العيش الرغيد للأهل زوجة وأولادًا ومن يقع تحت رعايته، تكون أحيانًا بالموعظة والغلظة في القول أو الفعل.

 

فربما كانت الاستجابة الدائمة لرغبات الزوجة والأولاد في المتع والملذات مفسدة لهم وتشوفًا منهم إلى الأمور المشتبهات بعد تجاوز حدود المباحات، فعندئذ ينبغي لراعي الأسرة أن يقف بهم على الحد الذي لا ينبغي تجاوزه، فهو كالراعي الذي يحمي حمى محارم مراعي غيره.

 

ويعطي المؤمن من نفسه القدوة المثلى لأهل بيته في سعة الصدر وحسن الخلق والتواضع، والوقوف عند حدود الله وتعظيم شعائر دينه، ومحاسبة النفس ويكون في حاجتهم يساعد الصغير ويشجع الكبير ويعدّل المعوج.

 

جاءت نسوة إلى آل الرسول – صلى الله عليه وسلم – يشكون أزواجهن، فقال عليه الصلاة والسلام: “لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم”[2].

 

إن رباط الزوجية المقدس الذي سماه الله سبحانه وتعالى الميثاق الغليظ لا ينبغي أن يكون عرضة للانفصام والتحلل بمجرد نزوة نفسية أو أحموقة هوجاء لهوى طائر، وما أحكم ما قاله عمر رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلق زوجته لأنه لا يحبها: ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم[3].

 

وقد بيّن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن المرأة المؤمنة مهما كرهها زوجها فإنها لا تخلو من خلق كريم وسجية جميلة يرضى عنه الرجل، فيقول: “لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر”[4].

 

ومن وصايا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للرجال التي يجب أن لا تغيب عن البال إن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهب يقيمه كسره وإن تركه استمتع به وهو أعوج[5].

 

ولربما اطّلع المؤمن على بعض المنغصات في حياته الزوجية ومع بعض أولاده فليجعل نصب عينه قوله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].

 

ومما ينبغي الالتفات إليه التوازن بين مهام العمل والعبادة والتفرغ للأهل، فيعطي كل ذي حق حقه، فمن الحقوق التي ينبغي أن تؤدى حق الزوجة ورعاية الأولاد فلا ينبغي أن يشغل المؤمن وقته داخل بيته بعباداته ومطالعاته، بل يقسم وقته بين هذا وذاك فإن للزوجة حق الاستمتاع بزوجها، وعليه أن يرضي أنوثتها بالتجمل لها بالزينة التي أباحتها الشريعة السمحاء.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ألم أنبأ أنك تقوم الليل وتصوم النهار، فقلت: نعم فقال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين ونفهت النفس[6]، صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر أو كصوم الدهر، قلت إني أجد بي قوة، قال فصم صوم داود عليه السلام وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفرّ إذا لاقى”[7].

وفي رواية مسلم: “.. بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل، فإن لجسدك عليك حظًا ولعينك عليك حظًا وإن لزوجك عليك حظًا..” الحديث[8].

وكان هذا الهدي معروفًا بين صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متبعًا في حياتهم، يأمر بعضهم بعضًا به، فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: “آخى النبي – صلى الله عليه وسلم – بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا فقال: كل، فإني صائم، قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم الليل، قال سلمان: نم، فنام. ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك له، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – صدق سلمان”[9].

 

بل يذهب هدي نبي الرحمة إلى أبعد مدى يتصوره المؤمن في السماحة ومراعاة حال الأهل في ما لا يخالف شرعًا، ولا يؤثر على مروءة بل من باب الاهتمام بما يشبع التطلع النفسي لحال حديثي السن.

 

عن عروة عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان وتضربان ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – مسجى بثوبه، فانتهرها أبو بكر فكشف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنه وقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد، وقالت: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون وأنا جارية فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن الحريصة على اللهو[10].

 

إن الزوجة مخلوق تعتورها المشاغل والاهتمامات المختلفة، وقد تنشغل عن بعض الأمور فلا تؤديه على الوجه الأكمل، فإلى جانب اهتماماتها بعبادتها ورعاية أطفالها والقيام بخدمة المنزل وتهيئة الطعام، قد تنشغل عن مراعاة الجانب النفسي وحق التبعل لزوجها، فلا ينبغي للزوج أن يكون حسيبًا رقيبًا على كل صغيرة وكبيرة، بل عليه أن يتغاضى عن بعض الجوانب وبخاصة ما يتعلق بأموره الخاصة وقيام الزوجة بها، ما دامت قائمة برعاية حقوق الله في نفسها وفي أهل بيتها.

 

وهذا ما يحمله لنا هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فمن شمائله عليه الصلاة والسلام (ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه)[11].

 

وسأل أهله الأدْم، فقالوا: ما عندنا إلا خلّ، فدعا به فجعل يأكل، ويقول: “نِعْمَ الأدم الخلّ، نِعْمَ الأدم الخلّ”[12].

 

إن المؤمن يدرك بحسه الإيماني المرهف الموقف الإصلاحي المناسب الذي ينبغي اتخاذه تجاه رعاية الزوجة والأولاد، ومن يكون تحت رعايته وعنايته.

 

إنه مسؤول عن وقايتهم جميعًا عن اقتحام حفرة النار التي تنتظر المارقين والمارقات من أحكام الشرع الحنيف.

 

إنه مسؤول عنهم في أداء عباداتهم على الوجه الأكمل وعن سلوكهم في الحياة، وأي إخلال في رعايتهم إخلال بجانب القوامة على الأهل، وقدح في رجولته، إنهم أمانة في عنق الرجل، إذ غالبًا ما تكون المرأة على دين زوجها، يقودها معه إما إلى الجنة وإما إلى النار.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].

إن دور القوامة لا يتحقق، والأثر المطلوب في سلوك الأهل والأولاد لا يبرز إلا إذا كان الرجل ذا شخصية قوية جذابة محببة، وخلق نبيل، وتسامح وإغضاء عن الهفوات الصغيرة، ووقوف حاد جازم عند حدود الله، وتطبيق لأحكامه على أفراد الأسرة جميعًا، وقيادة بارعة لبقة نحو الخير، وبذل وسخاء في غير سرف ولا تبذير، ونباهة ووعي وشعور بالمسئولية في الدنيا والآخرة، ينبغي أن يكون صاحب حكمة يضع الأمور في نصابها ويلبس لكل حال لباسها ويستخدم لكل مقام مقالها.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14].

———————————————————————————————————————————————-


[1] رواه البخاري في كتاب الجمعة (1/215) ومسلم في كتاب الإمارة (6/8).

[2] انظر مختصر سنن أبي داود، كتاب النكاح (3/69).

[3] التذمم: هو أن يحفظ ذمام صاحبه ويطرح عن نفسه ذم الناس له إن لم يحفظه. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/169).

[4] رواه مسلم، في كتاب الرضاع (4/178). ومعنى (يفرك) يبغض، النهاية (3/441).

[5] جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء” انظر الصحيح كتاب الأنبياء (4/103).

[6] معنى هجمت العين: غارت وضعف بصرها، ومعنى نفهت النفس: تعبت وكلَّت.

[7] رواه البخاري في كتاب الأنبياء (4/134).

[8] انظر صحيح مسلم كتاب الصوم (3/166).

[9] رواه البخاري كتاب الصوم (2/243) وروى البخاري في كتاب العيدين طرفاً منه (2/11).

[10] رواه مسلم في صحيحه كتاب العيدين، انظر النووي على مسلم (6/185).

[11] رواه البخاري في كتاب الأطعمة (6/204).

[12] رواه مسلم كتاب الأشربة (6/125).