شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
العصر الحالي عصر التجديد والتحديث في كل شيء، فكما تتجدد الأزياء وتتجدد الديكورات في المنازل وألوان المركبات وأشكالها فإن الأفكار والدعوات والشعارات تتجدد أيضاً، وكما أن لدور الأزياء مصممين مختصين وللصناعات مهندسين، فإن للأفكار والدعوات والشعارات مختصين، وباستعراض سريع للأفكار والشعارات التي رفعت على المستوى العالمي خلال القرنين الأخيرين نجد الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية الحرية المساواة العدالة وأريقت دماء وأزهقت أرواح بين الشعوب الأوروبية وكل يدعو إلى الحرية والمساواة والعدالة، ولم يستطع أحد أن يفهم حقيقة ما يدعو إليه ويطالب به.
وكان قادة الثورة الفرنسية ضحايا لما نادوا به حيث قدم الواحد تلو الآخر قرباناً لفهم غيره لهذا الشعار.
ولما خفت بريق هذا الشعار كانت المناداة بالقومية، وكل قوم يرى أن عنصره أفضل من غيره، واشتد التنافس القومي بين الشعوب مرة أخرى ولم تقتصر الدعوة القومية على الشعوب الأوروبية بل خرجت إلى العالم جميعاً ومنها العالم الإسلامي لتعمل الجمعيات السرية لبث الروح القومية بين شعوب العالم الإسلامي تحركها المحافل الماسونية الخفية، وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية كان يحكمها الأتراك إلا أن الدعوة إلى القومية الطورانية تبنتها جمعية تركيا الفتاة لقطع الصلة بالإسلام والعودة إلى الجاهلية الوثنية، وعلى الرغم من حكم الإسلام الواضح في مثل هذه الدعوات “دعوها فإنها منتنة”[1]كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن جذوة الدعوة الإسلامية لم تكن مؤثرة في نفوس المسلمين، ولم يستطع العلماء أن يقفوا في وجه هذه الدعوات لأنها كانت تستغل استبداد الحكام وظلم السلاطين لتدعو إلى التحرر باسم القومية. وهكذا انتشرت الدعوة القومية تمزق أوصال الدولة العثمانية إلى أن جرت إلى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل – الحرب العالمية الأولى – بل ليجهز عليها وتقتسم تركتها التي كانت دول الغرب تتلمظ لابتلاعها.
وكالعادة غيبت دول وأنشئت دول وقامت حروب وأريقت دماء واستعمرت أوطان. فكانت الدعوة التي فصلت للبلاد المستعمرة شعار الوطنية للتحرر من نير الاستعمار. والملاحظ أن شعار الوطنية لم يؤثر في العالم الإسلامي وكانت الحركات الوطنية ترفع شعار الجهاد الإسلامي ضد الكافر المستعمر، ولما تحررت بلاد المسلمين رجع الوطنيون إلى أصولهم العلمانية ونبذوا اسم الجهاد الإسلامي.
وبعد الحرب العالمية الثانية تحكم في العالم قطبان الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول التي تدور في فلكها رفعت شعار الحرية وتقرير المصير، والاتحاد السوفياتي ورفع شعار الحرية والاشتراكية، وبطبيعة الحال كانت الدول التي تدور في فلك أحد القطبين ترفع نفس الشعار وتدعو إليه.
واستمرت الحرب الباردة بين القطبين قرابة نصف قرن، وقامت حروب ساخنة بينهما ولكن بالواسطة، وتلقى كل قطب صفعة شديدة، من الآخر وهزيمة منكرة بواسطة حلفائها. فالولايات المتحدة الأمريكية تلقت هزيمة منكرة في فيتنام وكان الاتحاد السوفيتي يمد الشيوعيين سراً بالعتاد والخبرات والأموال، وتلقى الاتحاد السوفيتي هزيمة منكرة في أفغانستان، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يمدون الأفغان بالسلاح والمال سراً، ولما انهار الاتحاد السوفيتي وخرج من حلبة الصراع كان لا بد من شعار جديد للمرحلة الجديدة. فكان شعار الحداثة، ولم يستمر طويلاً حيث داهمه شعار العولمة وبعضهم يعتبر العولمة امتداداً وتكميلاً للحداثة. فما هي العولمة وكيف نشأت؟
[1] متفق عليه، رواه البخاري (4622)، باب قوله سواء عليهم، 4 /1861، ورواه مسلم (2584) 4 /1998.