دراسة الوحي المنزل ( مضامينه ودلالاته )

طرق الاستدلال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (2)

 

شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.

♦ لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتاب تحدى العالمين أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا، وتكرر هذا التحدي المرة تلو المرة، فلم يزدادوا إلا عجزاً، ولجؤوا إلى المقارعة بالسنان بدل المناجزة باللسان.

 

♦ والمتدبر لهذا الكتاب يرى شمول الموضوعات التي وردت فيه، وضخامة الحقائق التي تناولها تفوق الحصر ولا يستطيع عالم أو جيل من العلماء المتخصصين أن يدركوا بعض جوانبها، ومن يدرك البيئة التي عاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وكونه أمياً، يعلم علم اليقين أن هذه الموضوعات، وهذه الحقائق لا يمكن إلا أن تكون تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى.

 

♦ ولقد وردت قضايا غيبية في القرآن الكريم لا يدركها الإنسان إلا نقلاً من أخبار التاريخ وكتب السابقين، ومن غيوب المستقبل ما لا يحيط بها إلا مدبر الكون، ومصرف شؤونه، وقد طابقت أخبار غيب الماضي ما كان لدى أهل الكتب السابقة، ولقد وقع كثير من غيوب المستقبل على مقتضى ما أخبر به القرآن الكريم، كل ذلك يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم تلقى هذا الكتاب العظيم من لدن خالق السماوات والأرض، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ [الفرقان: 6].

 

♦ وهذا الطريق والمنهج هو الذي سلكه النجاشي رضي الله عنه فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما استمع إلى القرآن الكريم من جعفر بن أبي طالب كما ذكرت كتب السيرة، حيث قالوا: عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبدالله بن أبي ربيعة -قبل أن يسلما- وأرسلوا معهما الهدايا المستظرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي وقدما له الهدايا ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلم بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.

 

♦ ولكن رأى النجاشي أن لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعاً، فأرسل إلى المسلمين ودعاهم، فحضروا وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان، فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟

 

♦ قال جعفر بن أبي طالب – وكان هو المتكلم عن المسلمين- أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقنا، وآمنا به و اتبعناه على ما جاءنا به من الله، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته، حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً ولا أكاد- يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه- فخرجا من عنده وقال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غداً عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم فقال له عبدالله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا قال والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قال: فأرسل إليهم يسألهم عن المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق كائناً ما كان، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبراً ذهباً، وإني آذيت رجلاً منكم -والدبر بلسان الحبشة الجبل- ثم قال لحاشيته: ردوا عليهم هداياهما، فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه[1].

 

♦ لقد سلك النجاشي المنهج الصحيح للتحقق من صدق محمد صلى الله عليه وسلم بسماع القرآن الذي أنزل عليه، وتدبر معانيه، ومطابقة أخباره لما كان يعلمه من الكتاب فظهر له الحق فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل الإسلام.


[1] صحيح ابن خزيمة رقم (2260)، باب ذكر البيان أن فرض الزكاة كان قبل الهجرة إلى الحبشة 4 /13، ورواه أحمد في المسند رقم (1740) عن أم سلمة (أم المؤمنين) 1 /202.