شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
تعريف البرزخ:
البرزخ في اللغة هو الحاجز بين الشيئين، وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ، يقول تعالى: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾ [الرحمن: 19-20]، ويطلق البرزخ على الحياة التي تعقب موت الإنسان، والفترة التي يقضيها بين خروجه من الدنيا ودخوله في الآخرة.
يقول تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99-100].
وفسر العلماء البرزخ هنا بأنه: الحاجز بين الموت والبعث أو بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل في البرزخ، وقال رجل بحضرة الشعبي: رحم الله فلاناً فقد صار من أهل الآخرة. فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة[1].
فتنة القبر وسؤال الملكين:
اتفق أهل السنة والجماعة على أن كل إنسان يسأل بعد موته قبر أم لم يقبر، حتى لو تمزقت أعضاؤه، أو أكلته السباع، أو أحرق، أو سحق، حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو غرق في البحر، فلا بد أن يسأل عن أعماله، وأن يجازى بالخير خيراً وبالشر شراً، فقد ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلاصته، أن الميت إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، تعاد روحه في جسده، ويسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما المؤمن فيجيب بقوله: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول الملكان: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً في الجنة فيراهما جميعاً، وأما المنافق والكافر فيقول: لا أدري فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ثم يصيبه ما قدر له من العذاب[2]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن ميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسالوا له التثبيت فإنه الآن يسأل»[3]، وقد ورد اسم الملكين فيما يلي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبر الميت أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير..»[4].
عذاب القبر ونعيمه:
ثبت عذاب القبر ونعيمه بدلائل من الكتاب الكريم والسنة النبوية، فمن القرآن الكريم استدل العلماء على عذاب القبر بقوله تعالى: ﴿ … وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ [غافر: 45-46]، والذي يدل على أن ذلك يكون في القبر، وقبل أن تقوم الساعة ما جاء بعد ذلك تكملة للآية حيث يقول تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46]، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى عن قوم نوح عليه السلام: ﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً ﴾ [نوح: 25].
والفاء للتعقيب، فتفيد دخولهم النار عقب الإغراق مباشرة، ولا يكون ذلك إلا في عذاب القبر، وبقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ﴾ [الطور: 47]، حيث بين البعض أن المراد به عذابهم في البرزخ، وهو الأظهر؛ لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا.
ومن السنة النبوية استدل العلماء بعدد من الأحاديث الواردة عن عذاب القبر منها ما ورد في الصحيحين: عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: أما إنهما ليعذبان – وما يعذبان في كبير- أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، قال: فدعا بعسيب رطب، فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحداً، وعلى هذا واجداً، ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)[5].
ويدل على ثبوت نعيم القبر ما ورد في الآيات الواردة عن الشهداء، وما يتمتعون به من نعيم، وأنهم ليسوا أمواتاً بل أحياء، يقول تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران: 169-170]. ويقول تعالى: ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154].
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»[6].
وإذا كان القبر ونعيمه قد ثبتا بهذه الدلائل فيجب علينا الإيمان بذلك، دون أن نسأل عن الكيفية، يقول شارح الطحاوية: “وقد تواترت الأخبار عن رسول الله في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما يحيله العقول، و لكن قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير المألوفة في الدنيا[7].
ويقول في موضع آخر: “واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب، نال نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما ورد من إجلاسه، واختلاف ضلوعه ونحو ذلك، فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال، والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله”. وانتهى إلى أن: “كون القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفار النار مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم[8].
[1] راجع تفسير ابن كثير، مجلد 3، ص321، مؤسسة علوم القرآن عجمان، 1415هـ-1994م، وتفسير القرطبي، مجلد 6، ج12، ص100.
[2] راجع شرح الطحاوية، ج2، ص572-578، وأصل الحديث رواه الشيخان، صحيح مسلم رقم (2870) باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار، 4/ 2200.
[3] رواه أبو داود في سننه رقم (3221) باب الاستغفار ثم القبر للميت 3/ 215.
[4] رواه الترمذي (1017) وقال حسن غريب، صحيح ابن حبان (3117) 7/ 386.
[5] متفق عليه، رواه البخاري، رقم (213) باب من الكبائر.
[6] رواه الترمذي في جامعه رقم (2460) وقال: حديث حسن غريب، 4/ 639.
[7] راجع شرح الطحاوية، ج2، ص578
[8] شرح الطحاوية، ج2، ص609، وما بعدها.