تربية الأمة الإسلامية تربية ربانية من خلال الاتعاظ بأحوال الأمم

من المعلوم لدى علماء هذه الأمة والمشتغلين منهم بتفسير القرآن الكريم وعلومه أن القرآن الكريم نزل أول ما نزل في مكة المكرمة (وتسمى المرحلة المكيّة) يبين معتقدات الأمة ويبني الشخصية الإسلامية المتميزة عن غيرها بفكرها وسلوك أفرادها، وبقي القرآن المكي مدة ثلاثة عشر عاماً يرسخ هذه العقيدة ويبلور هذه الأخلاق ويدعو إلى أمهاتها.

واتبع القرآن الكريم الأساليب المختلفة الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف فمن أسلوب النظر إلى ما في الكون المحيط، إلى تلك العبارات العنيفة التي تشد انتباه المخاطب إلى ما يلقى إليه من كلام كأساليب الاستفهام والتعجب والردع والقسم وتلوين الخطاب من الغيبة إلى الحضور ومن المفرد إلى المثنى والجمع، ومن أسلوب القصة إلى الخطاب المباشر من الأمر والنهي…

كل ذك لترسخ عقيدة التوحيد في مكامن النفس المؤمنة لتتطهر من عقابيل الشرك والوثنية، ولتنبثق من هذه العقيدة أخلاق الإسلام لتصيغ سلوكاً فريداً سامقاً نظيفاً نقياً.

ومن خلال عرض هذه العقائد وبيان سلوك أتباعها جرى ذكر الأمم السابقة ومنهم اليهود. الذين اختارهم الله لحمل رسالته فترة من الزمن وأناط بهم مسؤوليتها ولكنهم تقاعسوا وانحرفوا.

ومن خلال استعراضنا لحديث القرآن المكي عن اليهود نجد الاقتصار على القضايا العقدية أيضاً، مجابهتهم لأنبيائهم فيها كما نجدها في سورة الأعراف وطه أما تحريفاتهم للشرائع والأحكام التفصيلية. وكتمانهم أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتآمرهم عليه فتأتي في السور المدنية مفصلة.

وهذا التدرج منسجم تمام الانسجام مع أسلوب القرآن الكريم العام في بناء الشخصية الإسلامية وإقامة صرح المجتمع الإسلامي، فما بيان مواقف اليهود من عقيدة التوحيد والإيمان باليوم الآخر وصلتهم بأنبيائهم إلا توضيح لحقيقة التوحيد والبعث بعد الموت وتفصيل لمهمات الأنبياء والمرسلين فتناول هذه الأمور خلال الحديث عن اليهود رافد من روافد المعرفة الحقة لبناء الشخصية الإسلامية المتميزة من خلال التحذير مما وقع فيه المحرفون المضللون.

وفي المرحلة المدنية التي كانت فيها مهمة البناء والصيانة والحماية تشغل الحيز الأكبر في الآيات القرآنية يأتي دور الاستقامة على شرائع الله والأخذ بها بحزم وعزم وترك الروغان تجاهها. كان النموذج الذي يبين تخاذل المدعويين وتقاعسهم عن التطبيق وحمل الأمانة على الوجه الصحيح يأتي بيان هذا النوع من خلال مواقف اليهود في تطبيق شرائع التوراة كما تعرضها سورة البقرة وسورة النساء والمائدة وكلها سور مدنية.

إن الحديث عن اليهود يتلاءم في كل مرحلة من الدعوة الإسلامية مع متطلبات المرحلة من بناء وتكوين وصيانة وحماية، فهم النموذج المنحرف الذي يساق لأخذ العبرة من انحرافاتهم. ولا شيء يعطي العظة للمتعظ كأسلوب الضال وسلوكه.

والسؤال الذي قد يثور في الأذهان، أما كان الأولى والأجدى عدم التعرض لليهود في المرحلة المكية حيث لم يكن لهم وجود فيها ولم يكن للمسلمين احتكاك بهم، فهلا تركوا فتح هذه الجبهة إلى حين؟ ليوحدوا جهودهم ضد المشركين، وخاصة أن المسلمين في مكة كانوا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم.

لو كان الأمر متروكاً للاجتهاد البشري لكان هذا التفكير مستساغاً مقبولاً، بل ربما كان من لا يأخذ به يتهم بالتسرع وقلة البصيرة.

أما وأن التخطيط رباني وتحديد الجبهات والمراحل كلها تنزيل من العزيز الحكيم، فلا شك أنها لحكم عظيمة وغايات كبيرة، ولعل للجانب التربوي للشخصية الإسلامية وترسيم معالم البناء الاجتماعي للأمة الإسلامية دوراً هاماً فيها، ومما نستلهمه من الهدايات التربوية التي نستشفها من ثنايا آي الذكر الحكيم:

1- بناء الشخصية الإسلامية بناءً متميزاً عما سواها من الشخصيات التي صاغتها بيئات مختلفة وتحت تأثيرات وضغوط اجتماعية منحرفة عن منهج الله تعالى، حيث كانت الضغوط في الساحة من موروثات الجاهلية بخرافاتها وأساطيرها وأثقالها وأوزارها.

وكانت اليهودية بحقدها وبغيها وانغلاقها وعنجهيتها واستغلالها وجشعها التلمودي وكانت النصرانية بضلالها وميوعتها وتفاهتها وقد انطمست معالم أتباعها هي المؤثرات في الساحة وهي مصادر المعرفة لتكوين الشخصية الإنسانية في ذلك الوقت.

والقرآن نزل ليكوّن خير أمة أخرجت للناس، لها مقومات الذاتية ومصادرها المعرفية، فلا بد من توحيد مصدر المعرفة لديها ولا بد من تجفيف المصادر التي تنزف الدخن والخبث، لكي تكون الأمة عارفة بشرعتها ومنهاجها.

ولقد نزل من أوائل ما نزل في المرحلة المكية سورة الفاتحة[1]، وفيها التضرع إلى الله تعالى بهداية المؤمن إلى الصراط المستقيم، وتجنبه صراط المغضوب عليهم وهم اليهود – وصراط الضالين وهم النصارى – كما جاء في حديث عدي بن حاتم[2].

فتحديد هذا النهج وبيان الصراط المستقيم يستدعي بيان المناهج الضالة حتى تتجنب السبل الأخرى المتفرقة التي تؤدي بصاحبها إلى المزالق والمهالك، فكان التعرض لعقائد اليهود وانحرافاتهم ومواقفهم مع أنبيائهم أمراً تقتضيه دواعي التكوين للشخصية الإسلامية المتميزة.

2- لو بدأت المعركة مع اليهود مع بداية المرحلة المدنية لقال بعض المتقولين إن محمداً أخذ من اليهود ما احتاج إليه ثم حسدهم وناصبهم العداء بعد الاحتكاك بهم، فعلى الرغم من الهجوم القرآني عليهم وعلى زيفهم وانحرافهم وكتمانهم الحق وقتلهم الأنبياء منذ بداية البعثة، فقد قال من قال في زماننا هذا ما قالوه إن محمداً أخذ علومه من اليهود، فكيف لو تأخر بيان ذلك إلى المرحلة المدنية.

كما أن المؤمن قد أعطي علاجا ًوقائياً لما قد يتعرض له عند الاطلاع على ما عند اليهود في المرحلة المدنية، فيعلم أن اليهود لن يكونوا صادقين مع المسلمين، وقد خانوا العهود والمواثيق التي أخذها عليهم ربهم، وأشهد عليهم أنبياءهم فعجزوا وفسقوا وغيروا وبدلوا فلا أمان لهم…

ولكي يعلموا طوية النفس اليهودية التي تربت على اللؤم والحقد وحب الإفساد في الأرض فلا يثق المؤمن بهم ويكون على حذر منهم عند التعامل معهم، وينفر من هذه الشخصية الملتوية الحقودة أشد النفور.

3- ولتعلم الأجيال الإسلامية اللاحقة من خلال الآيات المكية أن معركتنا مع اليهود معركة مستمرة بغض النظر عن المواقع التي يحتلها كل من الطرفين وليستشفوا من خلال الآيات القرآنية أن المعركة معركة المنهج الرباني والصراط المستقيم ضد المناهج البشرية الجاهلية المحرفة لكلمات الله، الساعية للإفساد في الأرض[3].


[1] يقول أهل التفسير: لم تكن صلاة بدون فاتحة الكتاب ومن المعلوم أن الصلاة فرضت في الأيام الأولى من البعثة كما أشارت إلى ذلك سورة العلق والمزمل وسورة المدثر وهي من أوائل ما نزل من القرآن.

[2] مسند الإمام أحمد 4/378.

[3] انظر معركة الوجود بين القرآن والتلمود ص 78 – 79.