تدوين السنة النبوية

شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.

المطلب الأول: المرحلة الأولى:

كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصون على استيعاب كل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق كل ما يأمر به، ورغبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصر الجهود والطاقات على حفظ القرآن الكريم واستيعابه وجمعه، وخشية أن يلتبس الأمر على بعض الصحابة – وهم حديثو عهد بالإسلام – نهى في بداية الأمر عن كتابة السنة النبوية، فقال عليه الصلاة والسلام: “من كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه”[1].

ولكن في حالات أمن الالتباس عند بعض الصحابة سمح لهم بالكتابة: فعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضا؛ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرجه منه إلا حق[2] وفي حجَّة الوداع عندما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته الجامعة قال أبو شاه – رجل من اليمن – (اكتب لي يا رسول الله، فقال: اكتبوا لأبي شاه)[3].

وكان علي رضي الله عنه يحتفظ لنفسه بصحيفة كتب فيها بعض أحكام الإسلام ومنها عقل الديات.

ولكن لم يتخذ الخلفاء الراشدون أي إجراء لكتابة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدوينها ولما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الأموية، حيث بلغت حدودها الصين شرقاً، والمحيط الأطلسي غرباً، والأناضول وأرمينيا وأذربيجان شمالاً، والمحيط الهندي جنوباً، كانت حاجة الناس للاطلاع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدة، ومن ناحية أخرى وجدت الفرق والمذاهب السياسية، والاجتهادات الفقهية، كل ذلك حمل الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز في نهاية القرن الهجري الأول[4] أن يأمر بتدوين السنة النبوية رسمياً بإشراف الدولة وتوجيهها.

فكتب إلى أمراء الأقاليم، أن يكلفوا علماء الشريعة وأئمة الدين في بلدانهم بجمع السنة النبوية من أهل العلم الموثوقين، وتدوينها، فتصدى أئمة العلم لتدوين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين مخصوصة [ومنهم محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبدالله بن شهاب الزهري وهو من علماء التابعين وفقهائهم].

وكانت طريقتهم في التدوين جمع كل ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن وبيان شرائع الإسلام من العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والأقضية، ومن شدة حرصهم على تنقية السنة النبوية من أقوال التابعين حرصوا على الإسناد وقال قائلهم: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء[5]. وقالوا: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم[6].

المطلب الثاني: المرحلة الثانية:

بدأت هذه المرحلة في القرن الثاني للهجرة بوضع الكتب الخاصة في كل علم من علوم الدين، ووضعت كتب السنة مستقلة عن كتب الفقه والغزوات والتفسير، وبدأ التدوين التخصصي للعلوم.

ووضع أئمة الحديثة مناهج لكتبهم التي جمعوا فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجوا للناس ما عرف بالجوامع، والمسانيد، والسنن والمصنفات.

المطلب الثالث: أنواع كتب السنة النبوية:

كان لكل إمام من أئمة الحديث منهج في كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من اشترط الصحة في الحديث الذي يدوِّنه، ووضع شروطاً للحديث الذي يحكم عليه بالصحة، كالإمام البخاري والإمام مسلم والإمام ابن خزيمة.

ومنهم من جمع الصحيح والقريب منه المنقول عن طريق رجال ثقات، ولكنه لم يتشدد كثيراً في قضية الضبط، فكان في كتابه الصحيح والحسن والضيف المقبول كأبي داود والترمذي والنسائي.

ومنهم من جمع كل ما وصل إليه من الحديث النبوي، ولم يتحر الصحة أو الحسن وإنما أراد أن يجعل كتابه جامعاً لكل ما وصل إليه بالسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: الإمام عبدالرزاق الصنعاني، وابن ماجه.

وفيما يلي تعريف بأهم أنواع هذه الكتب:

كتب الجوامع:

وهي الكتب التي جمعت كل ما وصل إلى المؤلف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد والعبادات والمعاملات والغزوات والتفسير والفضائل.. سواء التزم أصحابها بالصحة أم لم يلتزموا ومن أمثلة هذه الكتب:

• الجامع الصحيح للإمام البخاري (ت 256هـ) وقد التزم فيه الصحة، وهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم.

• الجامع الصحيح للإمام مسلم (ت261هـ) وقد التزم فيه الصحة، ولكن شروط التصحيح عنده أخف من شروط البخاري، فهو الكتاب الثاني بعد كتاب البخاري.

• الجامع الصحيح للإمام الترمذي (ت 279هـ) ولم يلتزم فيه بالصحة.

• الجامع الصحيح للإمام ابن خزيمة (ت 311هـ) التزم فيه الصحة، ولكن شروطه في التصحيح غير شروط الشيخين.

كتب السنن:

وهي الكتب التي أوردت الأحاديث النبوية المتعلقة بأبواب الفقه فرتبها أصحابها على أبواب الفقه مثل: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة وكتابة الصوم، والزكاة والحج، والنكاح. ومن أشهرها:

• سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ) وقد جمع في كتابه الصحيح والحسن، ولم يورد الضعيف إلا نادراً، وقد نبه عليه، وضعيفه مقبول، وليس فيه الضيف المردود أو الموضوع.

• سنن النسائي: للإمام أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) وهو كذلك على أبواب الفقه وفيه الصحيح والحسن والضعيف المقبول.

• سنن الدارمي: عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي (ت 255هـ).

• سنن ابن ماجة للإمام محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (ت273هـ) وفيه الصحيح، والحسن، والضعيف وبعض الضعيف المردود.

• هذه أشهر كتب السنن، وقد تلقتها الأمة بالقبول، مع كتب الجامع الصحيح للشيخين (البخاري ومسلم)، وللترمذي.

كتب المسانيد:

هي الكتب الحديثية التي صنفها مؤلفوها على مسانيد أسماء الصحابة، بمعنى أنهم جمعوا أحاديث كل صحابي على حدة[7].

ومن أشهر كتب المسانيد:

• مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ.
• مسند الحميدي (أبي بكر عبدالله بن الزبير الحميدي) المتوفى سنة 219هـ.
• مسند الطيالسي (أبي داود بن سليمان بن داود الطيالسي) المتوفى سنة 204هـ.
• مسند أبي يعلي المصولي (أحمد بن علي المثنى الموصلي) المتوفى سنة 307هـ.
• مسند عبد بن حميد المتوفى سنة 249هـ.

المصنفات:

هي الكتب التي رتبها أصحابها على أبواب الفقه، واشتملت على الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة[8]، فهي لم تقتصر على الأحاديث النبوية بل ذكرت أقوال الصحابة، وفتاوى التابعين وفتاوى أتباع التابعين أحياناً.

ومن أشهر المصنفات:

• المصنف لأبي بكر عبدالرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211هـ.
• المصنف لأبي بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى 235هـ.
• المصنف لبقي بن مخلد القرطبي المتوفى 276هـ.
• المصنف لأبي سفيان وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى 196هـ.
• المصنف لأبي سلمة حماد بن سلمة البصري المتوفى 167هـ.

الفرق بين هذه الأنواع من الكتب إجمالاً:

مما تقدم في تعاريف هذه الأنواع من الكتب الحديثية فإن:

• الجوامع تشتمل على جميع أبواب الدين، وهي مقتصرة على الأحاديث النبوية.
• السنن: مرتبة على الأبواب الفقهية، فهي مقتصرة على الأحاديث النبوية.
• المسانيد: مرتبة على أسماء الصحابة، فجمعوا أحاديث كل صحابي في مكان واحد على حدة.
• المصنفات: مرتبة على أبواب الفقه وتشتمل على الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وتابعيهم أحياناً.


[1] رواه الحاكم في المستدرك رقم (437) وقال صحيح على شرط الشيخين 1/216.

[2] أحمد وأبو داود واللفظ له رقم (3646) باب في كتاب العلم 3/318.

[3] الشيخان واللفظ لمسلم رقم (1355) باب تحريم مكة 2/988.

[4] توفي عمر بن عبدالعزيز 101هـ.

[5] مقدمة صحيح مسلم رواه عن عبدالله بن المبارك 1/15.

[6] مقدمة صحيح مسلم رواه عن محمد بن سيرين 1/14.

[7] انظر أصول التخريج ودراسة الأسانيد للدكتور محمود الطحان، ص40.

[8] المرجع السابق، ص118.