المنهج القرآني في عرض قضايا بني إسرائيل .. المرحلة المكية (4)

إن أية دعوة إصلاحية تقوم في مجتمع ما تستهدف تغيير الأسس الاجتماعية وإقامته حسب مفاهيم جديدة تقابل عادة بمراحل عدة، منها:

د- مرحلة الإيذاء والفتنة:

إن حبل الكذب والافتراء والأباطيل قصير، وأنفاس أهله قليلة وجولاتهم ضعيفة، فسرعان ما تنقطع بهم الحيلة وهم يقارعون الحق وأهله، ولا يستطيعون الاستمرار في مقارعة الحجة بالحجة، ولا يمكنهم الدوام في إلقاء ظلال الشكوك والشبهات على دعوة الحق.

وكلما قويت شوكة أهل الدعوة واجتمعت حولها القلوب وارتفعت هتافاتهم تصم آذان أهل الباطل، كلما انخلعت قلوبهم وارتجت الأرض من تحت أقدامهم فإن السيل الجارف لا بد بأن يأخذهم في طريقه، ولم يبق أمامهم شيء يتشبثون به لمقاومة التيار الجارف، ولا تبقى لهم أرض صلبة يقفون عليها، عندئذ يأتي دور التعجل بالتخلص من قادة الدعوة بالإيذاء ومحاولة القتل والتصفية الجسدية. هذا أسلوب العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة، الذي انقطعت به البراهين.

ينصب العذاب على الأتباع لإبعادهم عن مصدر الإشعاع والنور ومحاولة قتل الدعوة لإطفاء هذا النور.

وفي الغالب لا يلجأ أهل الكفر إلى هذه المرحلة إلا بعد اليأس من الترغيب والترهيب والمحاورة والمجادلة، فعندما يحسون أن الوقت لم يعد في جانبهم، يلجأون إلى هذا وفيه تقرير مصير أحد الطرفين.

وعندما لجأ مشركو قريش إلى أسلوب القمع والتعذيب، كان الوحي يسوق إلى الفئة المؤمنة سنن الله في الأقوام ويبين أن هذا الذي يرونه لم تخل منه دعوة ولا رسالة من الذين كانوا قبل المؤمنين، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسقيهم جرعات من الصبر كلما شكى إليه أصحابه ما يعانونه من شدة على أيدي الطغاة[1].

والسور المكية التي نزلت في هذه المرحلة تتضمن توجيهات بارزة في الجوانب التالية:

• بالإضافة إلى القضايا الأساسية من أسس العقيدة وأمهات الأخلاق.

• كانت تذكر سير الأنبياء وأهل الدعوة وما عانوه من شدائد.

• وكانت تفتح الأمل عند الفئة المؤمنة ببيان أن الفرج قريب، وأن الشدائد قد آذنت على الانتهاء.

• لفت الأنظار إلى البعد العالمي لدعوة الحق، والتطلع إلى الأفق الواسع المنتظر.

ولما كانت أحداث بني إسرائيل وتعرضهم للفتنة والابتلاء على يد فرعون وملئه يشكل الأنموذج الكبير، وفي قصص بني إسرائيل الآيات البينات التي أكرم الله بها عباده المتقين، وكيف كان إنجاؤهم بفضل الله تعالى من ذاك الظلم عندما آمنوا واتقوا الله تعالى، نجد في سوق قصص موسى بالإضافة إلى قصص الأنبياء الآخرين منهم تكراراً وتفصيلات ودقائق لم تكن في المراحل السابقة ففي سورة الأعراف المكية تذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه عندما كذبوه وجادلوه فأنجاه الله ومن معه في الفلك وأغرق المكذبين.

• ثم قصة هود عليه السلام مع قومه وكيف ذكّرهم بأيام الله وما جرى لقوم نوح وذكّرهم بأنعم الله عليهم ولكن القوم كذّبوا ولجوا في طغيانهم ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 72].

• ثم تأتي قصة نبي الله صالح عليه السلام مع ثمود وتذكيرهم بما هم فيه من النعمة وجاءهم ببينة عظيمة مبصرة ولكنهم كذبوا ﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 77 – 78].

• ثم قصة لوط عليه السلام مع القوم الذين انحرفت فطرتهم وأتوا بفاحشة ما سبقهم أحد من العالمين إليها. وعندما أصروا واستكبروا وحاولوا إخراجه وأهله من القرية أنجاه الله ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 83 – 84].

• ثم تأتي قصة نبي الله شعيب عليه السلام، ولم يكن مصير قومه بأحسن من مصائر الآخرين من المكذبين، وكانت نجاة شعيب ومن معه.

ثم تعقب الآيات الكريمة على هذه القصص الخمس ببيان هذه السنة في العالمين ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 94 – 102].

وأكثر هؤلاء الأقوام اندرست معالم حضاراتهم فالمكذبون قد استئصلوا والناجون قد جاءتهم الهدايات فلم تلبث أن كانت الوراثة لبني إسرائيل الذين جاء الحديث بعد ذلك بتفصيل شامل وذلك لأن سيرتهم قد دونت وآثارهم بقيت من بعدهم، وأقاموا حضارة بعد حضارة فرعون الوثنية وما نركز عليه في سياق الآيات ونلقي عليه الأضواء تلك المواقف المشرقة التي وقفها موسى عليه السلام وأتباعه في وجه الفتنة الهوجاء ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ[2] وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[الأعراف: 123 – 128].

إن قراءة سير السابقين ومعرفة سنن الله في الأولين، تدخل السكينة على قلوب الممتحنين وتعطيهم جرعات من الصبر والأمل فما دامت سنة الله في أوليائه أن يعرضوا للفتنة ليميز الله الخبيث من الطيب ويختار شهداء، ويرسم بذلك معالم الدعوة للأجيال اللاحقة، فلا غرو أن تلقى هذه الفئة من المؤمنين الشدة ما دامت العاقبة للمتقين. كما أننا نلاحظ في هذه السورة أن السياق لم يكتف بالحديث عن نجاة بني إسرائيل من بطش فرعون وملئه، وإنما استمر السياق لبيان مواقف بني إسرائيل من نبيهم وتبرمهم بالمصاعب التي لا قوها فيما بعد وعدم صبرهم على أوامر الله، وانحرافاتهم في العقيدة وفي السلوك وكأنه تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية الأخيرة وتحذير لهم إن آلت الأمور إليهم أن يسلكوا مسلكهم ويتبعوا سننهم في التبرم بشرائع الله التفصيلية أو أن ينحرفوا عن منهج الله في ذلك ولقد وقع شيء من ذلك على الرغم من هذا التحذير والتنبيه[3] ولكن كان على نطاق ضيق ولم يكن إجماعاً من الأمة على الانحراف فاليهود كان من أمرهم ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 138 – 140].

﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 148].

فوجود موسى عليه السلام بين ظهرانيهم لم يمكنهم من اتخاذ الأصنام، ولكن لما غادرهم لميقات ربه كان القوم مسرورين باتخاذ العجل إلا هارون عليه السلام ونفراً قليلاً[4] معه لم يتمكنوا من الوقوف في وجه الطغاة المنحرفين.

إن سرد هذه الوقائع التفصيلية في سيرة بني إسرائيل – وكما قلنا في السابق ولم يكن لهم وجود في مكة ولم يكن للمسلمين اختلاط بهم خارجها – هو تهيئة للنفوس المؤمنة لكي لا يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل بعد أن ملكوا أمرهم، وعليهم أن يعدوا أنفسهم للقيام بالقوامة على دين الله ولا شيء أشد أثراً في تربية النفوس كالعظات المأخوذة من سير السابقين.

ومن لطائف الأسرار القرآنية ومن جميل وجوه المناسبات أن يأتي الحديث بعد ذلك عن دعوة الإسلام العالمية من خلال ذكر العهد والميثاق المأخوذ على بني إسرائيل أنفسهم لكي يؤمنوا بالنبي الأمي عندما يأتيهم بدعوته العالمية – وكأن إيراد التفصيلات في انحرافات بني إسرائيل لتهيئة نفوس المؤمنين بأن لا يتأثروا بموقف اليهود إن هم تنكروا لهم فإنهم قوم بهت وتلك سيرتهم مع أنبيائهم، فإن أعرضوا عن دعوة الإسلام وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم وقد وجدوا أوصافه في كتبهم فلا يستغرب ذلك من القوم المفسدين.

ولنعد إلى سياق الآيات، ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ * وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا ﴾ [الأعراف: 154 – 156].

إن وجود الأنبياء بين الأمم رحمة للمؤمنين، فلما كان من القوم هذا الشطط – علماً أنهم اختيروا من أماثل بني إسرائيل – في طلبهم رؤية الله عز وجل. وأخذتهم الرجفة عاد موسى عليه السلام إلى الدعاء والرجاء والتضرع إلى أن استجاب الله دعاءه إلى إحيائهم ولكن بشرط أخذه عليهم ﴿ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 156 – 158].

نعم إنها نقلة من صعيد مكة وشعابها وجبالها ووهادها إلى أقطار العالم جميعاً ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾.

وتهيئة للنفوس لقيادة العالم على نور من كتاب الله وعلى هدي آيات الله، ولكن هل سيستجيب الناس لهذه الدعوة العالمية. وهل سيلقون لها قيادهم، وكيف سيكون موقف أهل الكتاب – خاصة – منها وماذا على الجماعة المؤمنة عندما تحمل راية هذه الدعوة قيادة فكرية عالمية من تكاليف وواجبات عليهم أن يعدوا أنفسهم لها.

إنها نقلة روحية ونفسية كبيرة – إلى جانب نقلة الدعوة من صعيد مكة إلى أنحاء العالم – فلا بد من التناسب بين النقلتين، وهذا ما يؤكده سياق الآيات برسم معالم الدعوة العالمية عندما يخرجون إلى الصعيد العالمي[5] فيبدأ بأهل الكتاب مرة أخرى وعلى منهج القرآن في الحق والعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ولا يظلم ربك أحداً. ولنستمر مع السياق القرآني في سورة الأعراف ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 159].

هذه شريحة كانت على عهد موسى عليه السلام كانوا يلتزمون الحق به يحكمون بين الناس بالعدل والقسطاس، وعلى خطاهم تسير فئة من بني إسرائيل في كل العصور ولكنهم قليل وستلتقون بهذه الفئة يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسينضمون إلى ركب الخير ويجاهدون معكم..

وقد كان، أمثال عبدالله بن سلام وبعض أحبار اليهود.

ثم يأتي الحديث عن أسباط بني إسرائيل ونعم الله التي أنزلها عليهم بعد أن مكن لهم في الأرض وزقهم من الطيبات.

أليست كلها دروس تربوية عظيمة لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – خلال هذا السرد التاريخي لحياة بني إسرائيل وما اعتورها من أحداث عظام وهذه المداخلات التي تلفت النظر إلى أمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودورها ومهمتها في قيادة العالم، وفي نفس الوقت تحذير لها لكي تتجنب ما وقعت فيه بنو إسرائيل ويمضي السياق في الحديث عن الأمم التي تكونت من الأسباط، وكيف فكت ضائقتهم في المطعم والمشرب بتفجير الينابيع وإنزال المن والسلوى عليهم، وتوفير الظلال الوارفة لهم بتظليل الغمام عليهم، ولكن هل أدوا شكر هذه النعم؟! وماذا كان موقفهم من التكاليف الشرعية؟! لقد كان العناد والتحريف والتحايل والتمرد دائماً.

﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ * وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 161 – 163].

ويأتي دور تلك القلة من المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من قوم موسى عليه السلام ليقوموا بدور النصيحة فينبهوا قومهم إلى خطورة ما يفعلونه بشأن الحيتان والسبت، ولكن هل للقوم عقول يفكرون بها أو قلوب تقبل الهداية؟!

﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [الأعراف: 164 – 166].

هذه نماذج من أفعال بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوات، وقد تحددت معالم شخصيتهم، والآباء يربون أبناءهم على نهج اختلقوه لأنفسهم وكل جيل يرث عن الجيل الذي يتقدمه هذه المبادئ الملفقة من هنا وهناك وقد ضيعوا معالم التوراة، وهم يمنون أنفسهم الأماني الخادعة ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى[6] وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 169 – 170].

ونتيجة هذه التربية المنحرفة وهذا الحقد الدفين المتوارث، والرغبة في تدمير العالم وإفساده كانت سنة الله الخالدة الباقية إلى يوم القيامة فيهم، أن يكونوا منبوذين من أمم الأرض، تصب عليهم اللعنات أينما كانوا ويسلط عليهم بين الفينة والأخرى من يقلّم أظفار الشر فيهم ويعيدهم إلى حجمهم الطبيعي وهي سنته المتكررة:

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 167].

إن إنسانية الإنسان تتحقق باتباعه الوحي الرباني المنزل من خالق السماوات والأرض، والعبودية لله تعالى تحقق الكمال الإنساني، حيث تتحقق الغاية التي خلق الإنسان من أجلها ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 – 58].

وأي إهمال لهذه المهمة وأي ابتعاد عن نور الوحي يبعد الإنسان عن الكمال البشري ويلحقه بالدواب والأنعام، وقد يكون أضل منها لأنه يسخر عقله لمزيد الإسفاف والانحطاط بينما البهائم لا تتحايل في الإسفاف والانحطاط وإنما هي مفطورة على غرائز معينة تدفعها لتصرف محدد.

ولا غرابة أن نجد بعد هذه الجولات الواسعة في ميادين انحرافات بني إسرائيل أن تختم هذه الآيات بهذا المثل الدقيق المعبّر فما حالهم إلا كحال هذا المخلد إلى الأرض:

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 175 – 179].

سنن إلهية في المنهج التربوي لأمة الإسلام تعرض من خلال قصص بني إسرائيل، وآمال الأمة تلوح في الأفق باستعراض النهج القويم، وتحذير من سوء المآل والعاقبة إذا اتبعت الأهواء وتركت الهدايات المنزلة عن طريق الوحي.

وبيان للارتقاء الحقيقي في سلم الكمالات الإنسانية، وتخويف من الانتكاسة والخذلان عند تعطيل وسائل المعرفة.

كانت تلك وقفات مع سورة الأعراف المكية ومنهجها في عرض لمحات تربوية وإشراقات توجيهية لهذه الأمة من خلال الاعتبار بقصص بني إسرائيل.

وفي سورة الكهف المكية نجد لوناً آخر من بشائر الفرج يساق إلى المؤمنين بتقدير العزيز العليم، ويُسخَّر في سوقه طرفا المكر والصد عن سبيل الله: المشركون واليهود، فبعد أن عجز المشركون من التصدي للدعوة بالبراهين وإثارة الشبهات وأسقط في أيديهم فلم تنفعهم افتراءاتهم بأن القرآن أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، ولم يسعفهم الزعم أنهم لو شاءوا لقالوا مثل ما قال محمد صلى الله عليه وسلم. بعد عجزهم أرسلوا إلى اليهود في يثرب وقالوا لهم إنكم أهل الكتاب الأول فأعطونا ما نتثبت به من أمر محمد هل هو نبي مرسل أو متقول، فأعطوهم أن يسألوه عن فتية خرجوا في الزمان الأول وكان من أمرهم عجب، وأن يسألوه عن رجل طواف في الآفاق وكان من أمره عجب وأن يسألوه عن الروح[7].

فنزلت سورة الكهف إجابة لأسئلتهم وإشارة إلى أن كهفاً من عناية الله سوف يأوي هؤلاء المستضعفين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما آوى الكهف الجبلي الفتية المؤمنين الفارين بدينهم من الفتنة.

وأن نفوساً ستبش في وجوه هذه العصبة من أنصار دين الله في يثرب بالقرب من الذين عاضدوا قريشاً في شكهم وحاولوا معهم طمس نور الحق بتلقينهم المنهج التعجيزي في التثبت من أمر النبوة وهو منهج غير سليم فمتى كانت الأسئلة التعجيزية وسيلة التحقق من صدق الرسالة وصاحبها، فهذا نبي الله موسى عليه السلام وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل لم يعلم تأويل الأحداث الثلاثة التي جرت أمامه وأنكر على الخضر تصرفاته على الرغم من تعهده أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، على الرغم من كل ذلك لم تؤثر الأحداث وما دار حولها في نبوة موسى عليه السلام شيئاً، ولم يشك بنو إسرائيل في نبوته فلِمَ يجعلون مثل هذه الأسئلة أسلوباً للتحقق من صدق الرسالة[8].

جعل الله هذه المناسبة وسيلة للإشارة إلى قرب الفرج للعصبة المؤمنة ليجدوا مأوى كما وجد الفتية المأوى، وليبش في وجوههم أهل المدينة كما بش أهل المدينة في وجه أحد الفتية ثم ذهبوا إليهم ليكرموهم وليخلدوا ذكراهم[9].

وفي خضم الدعوة وارتفاع توتراتها واشتداد الفتنة تأتي آيات سورة العنكبوت وهي من أواخر ما نزل في المرحلة المكية لتبين أن سنة الله في الدعوات هي الابتلاء والفتنة ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 – 6].

ولما كان جزء من الفتنة ينصب على المؤمنين من أقربائهم وذوي أرحامهم فقد جاء في سياق السورة ﴿ وَوَصَّينَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 8 – 10].

وفي سورة العنكبوت ثلاثة أمور تلفت النظر – وكما قلنا هي من أواخر ما نزل في المرحلة المكية -.

الأمر الأول: ذكر كلمة المنافقين، ومن المعلوم أن النفاق لا يكون إلا عندما تكون الغلبة للمسلمين، حيث يخشى بعض الناس على مصالحهم فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ومن المعلوم أن المجتمع كان جاهلياً في مكة وكانت القوة والغلبة لأهل الشرك، فما مناسبة مجيء المنافقين في هذه السورة في قوله تعالى: ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 11].

وهي سورة مكية كما قلنا. فهل كانت الآمال قد قويت عند الفئة المؤمنة بحيث تراءى لهم الفرج والنصر قاب قوسين أو أدنى. أم أن هذه الآية مدنية وضعت في سورة مكية، لأن النفاق لم يحن وقته بعد كما ذهب بعض المفسرين[10].

الأمر الثاني: اللافت للنظر في سورة العنكبوت، ورود الأمر بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وكأنه تهيئة للنفوس للمرحلة اللاحقة التي سيكون بين المسلمين وبين أهل الكتاب احتكاك، فلا يكونوا البادئين بالشدة، فيأتي التنبيه على هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 46 – 47].

والأمر الثالث: تهيئة النفوس للهجرة في أرض الله الواسعة، وربما كانت يثرب قد بدأت تستقبل المهاجرين من المؤمنين بعد بيعة العقبة الأولى، ومهما كان الأمر وأنى كان وقت نزول سورة العنكبوت فإن الإشارة واضحة والحث على الهجرة أيضاً واضح، ببيان تكفل الله الرزق للعباد في أي أرض وفي أي زمان ولنقرأ قوله تعالى: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56].

وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [العنكبوت: 60 – 62].

لقد كانت لهذه المسيرة المباركة في المرحلة المكية مع تكوين الشخصية الإسلامية على مستوى التربية الفردية، وصهرها في بوتقة الجماعة بالتفاعل مع الأحداث المحلية ومن خلال العظات والعبر المستفادة من سير السابقين ومع فتح باب الأمل للمستقبل المشرق، كان لكل ذلك أكبر الأثر في إيجاد تلك القيادات الرائعة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتسلموا دفة قيادة خير أمة أخرجت للناس وليغيروا وجه التاريخ في مدة زمنية تعتبر لحظات عابرة في عمر الأمم، إنها أمة محمد صلى الله عليه وسلم (أمة الإسلام).


[1] عن خباب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة فقلت ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه انظر صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار 4/239 ومسند الإمام أحمد 5/109.

[2] ما أشبه اليوم بالبارحة، تسلط الطواغيت على الفئة المؤمنة قتلاً وتشريداً وتعذيباً، لكن العجيب أن لليهود دوراً في كل ذلك فمن شروطهم في الصلح القضاء على الفئات الإسلامية..؟! والتهمة هي هي الإفساد في الأرض والإرهاب والتخريب والقضاء على السياحة واقتصاد البلد؟!!.

[3] عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم وفي رواية – يعكفون عندها – قالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم. انظر المسند 5/218، وسنن الترمذي، أبواب الفتن 3/321.

[4] تقول التوراة المحرفة عن حادثة اتخاذ العجل أن هارون هو الذي اتخذ لهم العجل كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وقد برأ القرآن ساحة هارون عليه السلام حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ﴾ سورة طه: الآية 90.

[5] جاء مثل هذا التأكيد بصورة أخرى في افتتاحية سورة الروم حيث لفت النظر إلى الأحداث العالمية من خلال الحديث عن الروم والفرس ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [سورة الروم: 1- 7].

ولفت النظر إلى هذا الحديث العالمي بين أكبر دولتين في ذاك العصر، إشارة إلى أنه سيكون للمؤمنين دور في الأحداث العالمية، وجاء التأكيد على ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾. وقد كان هذا الفرح بالنصر يوم الحديبية، على ما هو الراجح من أقوال المفسرين.

[6] المقصود بالعرض الأدنى ما وصلت إليه أيديهم من المال والرشا والربا وهم يعلمون أنه حرام وسحت ولكن يمنون أنفسهم بأن الله سيغفر لهم لأنهم أبناء الله وأحباؤه – شعب الله المختار – وكلما عرض لهم متاع دنيوي أخذوه من غير أن تكون لهم أوبة صادقة إلى الله تعالى. انظر في ذلك التحرير والتنوير: ص 9 ص 160، 161.

[7] انظر: السيرة النبوية لابن هشام مع حاشية الروض الأنف 2/39.

[8] انظر في ذلك كتابنا مباحث في التفسير الموضوعي ص 189.

[9] انظر هذه اللطائف وغيرها في تأملات في سورة الكهف للشيخ أبي الحسن الندوي ص 46 وفي قصة أصحاب الكهف جاء قولهم: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾ وجاء تسمية المدينة التي آوت المسلمين والتي كانت تعرف بيثرب سميت (بالمدينة) أيضاً.

[10] انظر في ذلك صنيع محمد فؤاد عبد الباقي في المعجم الفهرس حيث رمز للآية بـ(م) وهو رمز الآيات المدنية.

وانظر أيضاً ما ذكره القرطبي عن ابن عباس وقتادة أن سورة العنكبوت مدنية كلها. وذهب الحسن وعكرمة وعطاء وجابر إلى أنها مكية كلها… وذهب يحيى بن سلّام – وهو أحد قولي ابن عباس – أنها مكية إلا عشر آيات من أولها.

انظر تفسير القرطبي ص 13و 323.