أولاً: التركيز على القضايا العامة:
في هذه الدراسة التركيز على القضايا العامة التي يشترك فيها بنو إسرائيل عامة. أما القضايا الخاصة بأفراد مثل قصة قارون والسامري فمثل هذه الانحرافات وإن كانت تدل على شريحة من اليهود تأصلت فيهم هذه المعاني إلا أن القرآن الكريم لم يعمم المؤاخذة عليهم بسبب أمثال هؤلاء أما في قضايا أخرى فإننا نجد القرآن الكريم خاطب بني إسرائيل عامة وإن كانت وقعت من فئة منهم فيدل ذلك على أن المتأخرين منهم مؤيدون لهم وعلى شاكلة السابقة، فقضية ذبح البقرة وقضية عبادة العجل، وقضية طلب رؤية الله جهرة، وقضية الطلب أن يجعل لهم آلهة كما لغيرهم آلهة وأصنام…
كلها قضايا جاء الخطاب فيها بصيغة التعميم ومؤاخذة اليهود والمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الأفعال التي وقعت من متقدميهم علماً أن المبدأ الشرعي في المحاسبة ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 38].
ولكن المبدأ الآخر لو تمالأ قوم بالتأييد والتنفيذ على أمر أخذوا جميعاً[1]. فهذا يدل على أن المتأخرين من اليهود كانوا مؤيدين لأفعال أسلافهم فشاركوهم في المأثم.
وما ذاك إلا أن السابقين حرفوا وبدلوا وكتبوا ما أملت عليهم أهواؤهم وورثها المتأخرون فأخذوها مسلّمة من غير تمحيص وتدقيق ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].
بل إن هذه الكتابات التي كتبوها بأيديهم ومنها (التلمود) لا يزال يشكل الأساس التربوي والمنطلقات الفكرية التي يتربى عليها أجيال اليهود إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله من الأجيال …
ثانياً: النقل عن كتب اليهود:
وما دامت الدراسة حول اليهود ومعتقداتهم وأخلاقهم وشرائعهم وشروحهم للتوراة وتحريفاتهم لها، سأضطر إلى النقل عن كتبهم ولكني حاولت جهدي أن أنقل من كتبهم مباشرة فإن لم أتمكن فقد حاولت النقل من الكتب التي نقلت من المصادر اليهودية وأشارت إلى المصدر وحددت الجزء والصفحة.
أما الذين نسبوا كلاماً إلى بني إسرائيل أو إلى اليهود من غير تحديد المصدر فقد حاولت جهدي أن لا أنقل مثل هذا النص وذلك حرصاً على أن يكون النقل دقيقاً يمكن التحقق من وجوده في المصادر اليهودية.
ثالثاً: منطلق البحث قرآني المنزع:
أشغلت الدراسات حول اليهود حيزاً كبيراً في المكتبة المعاصرة وأغلبها ينصب على الجانب التاريخي من حياة اليهود، وكما ينصب قسم منها على كتبهم المقدسة وعقائدهم فيها…
والمؤلفون المسلمون كتبوا قديماً وحديثاً عن اليهود وعقائدهم وأخلاقهم وشرائعهم، وكانت منطلقاتهم في الغالب تنصب على كتب اليهود والدراسات التي أجريت حولها قديماً وحديثاً وقليل من الباحثين الذين انطلقوا في دراستهم عن اليهود من المنطلق القرآني بأن يجعلوه الأساس الذي يبنون عليه دراستهم عن اليهود وأرى أن المنطلق القرآني في الدراسة هو الأسلوب الوثائقي الصحيح والدقيق فكما أن أصل الديانة اليهودية وأصل كتبهم وأنبيائهم لا يستطيع أحد أن يوثق وجودها ووقائعها توثيقاً علمياً بحيث لا يتطرق إليه الشك بمعزل عن الرجوع إلى القرآن الكريم، فكذلك عقائدهم وانحرافاتهم ومواقفهم من أنبيائهم وشرائعهم لا يمكن أن تثبت بشكل دقيق وصحيح بمعزل عن القرآن الكريم.
لذا فقد ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143] قال عدلاً ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143][2].
لقد نزل بالأمم والشعوب من الكوارث والأحداث ما تسبب في ضياع كثير من شؤونها وطمس معالم حضاراتها، فلا يستطيع أحد أن يثبت معالم تلك الحضارات. وعلم الآثار وعلم التاريخ أعجز أن يسجل دقائق الأحداث والوقائع كما جرت، فليس كل الأمور تكتب على الآثار، وليس كل الأحداث الصغيرة في حياة الشعوب تدون في سجلات التاريخ، حتى وإن سجلت فكثيراً ما تعرض للزيف والتحريف والتشويه عن قصد وعن غير قصد، وربما دونت في التلمود وما دوّن من سير بني إسرائيل فقد دوّن بعضها بعد أكثر من أربعة عشر قرناً وبعضها دوّن بعد ميلاد المسيح عليه السلام، وحتى بعد التدوين تعرضت كثيراً للتحريف والتبديل.
إلا أن النص الوثائقي الذي لم يتطرق إليه الشك هو النص القرآني الذي تكفل الله جل جلاله بحفظه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
فعلى الرغم من طروء أحداث تاريخية جسام على الأمة الإسلامية إلا أن القرآن الكريم بقي مصوناً محفوظاً في الصدور مدوناً في السطور لم تطله أيدي المحرفين بفضل أسلوبه المعجز…
لذا فإن منطلقنا في هذه الدراسة من النص القرآني يجعله الأساس الثابت والقاعدة الأصيلة في إثبات الواقعة، ثم تأتي الشواهد على تلك القاعدة أو الواقعة المذكورة في القرآن الكريم من الحدث التاريخي أو من كتب بني إسرائيل أو من الدراسات التي قام بها غير علماء المسلمين، وذلك لإقامة الحجة على اليهود على قاعدة (من فمك أدينك) قليل من الباحثين من سلك هذا الأسلوب في البحث عن اليهود من منطلق قرآني.
وقد يورد بعضهم نقداً لهذا الأسلوب ويتهم المنهج بعدم موضوعيته وكونه منحازاً لأن الصراع في الأصل بين المسلمين وبين اليهود فكيف يكون كتاب المسلمين الأول حجة على خصومهم…
إننا نبين من خلال البحث بإذن الله، كيف أن الدراسات المحايدة التي أجريت كلها متطابقة مع ما جاء في القرآن الكريم عن اليهود، وكذلك سنورد الأدلة الكثيرة على الإنصاف الذي نلمسه في آيات القرآن الكريم عند الحديث عن اليهود، فعندما كانوا على النهج الصحيح في زمن موسى عليه السلام كيف تحققت فيهم الخيرية وفضلوا على العالمين. وجاء الثناء على مواقفهم، ولكن عندما بدأ التحريف والكتمان والتلاعب بشرائع الله ذكروا بما فيهم فكان الحق والعدل والإنصاف ملازماً في كل الأحوال لأحكام القرآن الكريم.
لعل وجهاً من وجوه إعجاز القرآن الكريم يبرز من خلال سرد الوقائع التاريخية المسلم بها عند الباحثين عندما نلمس ذلك وقد أوردها القرآن الكريم وقررها ووجه الأنظار إلى تلك الوقائع بأبعادها وشخوص أفرادها وحوار أطرافها وكأن القارئ والمستمع لآيات القرآن الكريم يعايش الواقعة أو يشاهدها.
من أجل ذلك كانت دراستنا هذه دراسة قرآنية ومن ألوان التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.