الاغتيال السياسي

تعقيب:

لقد كان بين الفترة والأخرى يوجه رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – بعض شباب المسلمين لاغتيال بعض زعماء اليهود كما فعل رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – عندما قال:

♦ (من لي بكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله)[1] فانتدب له محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة (أبو نائلة)، وعباد بن بشر بن وقش والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عيسى بن جبر، وليلة تنفيذ المهمة مشى معهم رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – إلى البقيع ثم ودعهم قائلاً: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم[2]، وبقي في انتظارهم فلما رجعوا استقبلهم قائلاً أفلحت الوجوه[3].

 

♦ عمرو بن جحاش: وهو الذي انتدب لإلقاء الحجر على رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -. فبعد غزوة بني النضير قال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – ليامين بن عمير – الذي أسلم -: ألم تر ما لقيت من ابن عمك، وما همَّ به من شأني؟ فجعل ابن عمير لرجل جعلاً على أن يقتل له عمرو بن جحاش فقتله.

 

♦ أبو رافع سلام بن أبي الحقيق: ركب في نفر من بني قومه بني النضير إلى قريش وغطفان وثقيف وغيرهم من قبائل العرب يؤلبهم على حرب رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعد إجلاء بني النضير إلى خيبر، حيث نزل أبو رافع في أحد حصونها، فأرسل إليه رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – خمسة نفر من الخزرج وهم: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والأسود بن خزاعي، ومسعود بن سنان[4]، فتمكنوا من قتله في داره ليلاً. ولو نظرنا في سيرة هؤلاء لوجدناهم يقومون بأعمال ضد الدولة وضد رئيسها وضد المجتمع الإسلامي:

1- نقضهم العهد الذي التزموا فيه بمناصرة المسلمين ضد كل عدو خارجي وعدم إيواء المحدثين المعادين أو إعطائهم الجوار.

 

2 – تحريض الأعداء على حرب المسلمين.

 

3- الحرب الإعلامية ضد المسلمين من هجاء رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين ورثاء قتلى المشركين.

 

4- التشبيب بالمسلمات القانتات وإشاعة الفحش من القول.

 

5- التآمر على قتل رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -، وانتداب أحدهم لذلك (عمرو بن جحاش).

 

على ضوء ما تقدم يثور سؤال:

ما حكم الاغتيال السياسي الآن؟!

لإصدار الحكم الشرعي في ذلك لا بد من استقراء النصوص والاطلاع على أقوال العلماء فيها، ولعل ما ينبغي مراعاته جملة أمور منها:

1 – شروط في ولي الأمر الذي يصدر الحكم أو الأمر:

أ- أن يصدر القرار من أعلى سلطة مسؤولة في الدولة.

ب- أن يكون الأمر مجمعاً عليه، من غير مخالف.

جـ- أن يترتب على تنفيذ القتل علناً فتنة أكبر.

د- أن لا يترتب على تنفيذ الاغتيال فتنة أكبر.

 

2 – شروط في المغتال الذي تقرر اغتياله:

أ – أن يكون كافراً – على ملة غير الإسلام – خالف شرط الذمة والعهد، أو مسلماً خالف أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، فحكم عليه بالردة إجماعاً.

 

ب – أن يكثر فساده وشره، وتقدير ذلك يعود إلى أهل الشورى أو أهل الحل والعقد، أو اللجنة العليا.

 

جـ – أن يكون إجماع بين أهل الحل والعقد على استحقاقه القتل نتيجة أفعاله المخرجة له من الملة.

 

إن العمل بحد ذاته مشروع لأن رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – قد أمر به وهو المشرِّع، ولكن لا بد له من ضوابط تكبح جماح الحكام لئلا يتخذ فعل رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – ذريعة للفتك بكل من خالفهم الرأي أو كانت له انتقادات سياسية للحكم.

 

وهذا اللون من القتل أو تنفيذ حكم الله في المفسدين في الأرض غير حكم إهدار الدم، إذ إن إهدار الدم يكون الحكم فيه علنياً، ولا يحدد شخص ولا طائفة لتنفيذه، وإنما يشجع عليه مقابل أجر أخروي أو دنيوي.

 

3 – حملة التأديب لبني قريظة:

لم يكن اليهود لتكف عن إيقاد نار الحروب ضد المسلمين، فبعد أن أجليت بنو النضير عن المدينة اتخذوا خيبر وكراً لتآمرهم وقاعدة لانطلاق مسعري نار الفتنة إلى القبائل العربية، فقد ركب حيي بن أخطب وسلام بن مشكم وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وأبو عامر الفاسق إلى قريش في مكة يحرضونهم على حرب الرسول  – صلى الله عليه وسلم – وبقوا معهم يوسوسون لهم ويزينون لهم قتال المسلمين حتى حملوا خمسين رجلاً من بطون قريش على التحالف وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة متعلقين بأستارها أن لا يخذل بعضهم بعضاً ويكونون يداً واحدة على محمد ما بقي منهم رجل.

 

عندئذٍ شعر الوفد بالراحة، فخرجوا من مكة إلى غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين وقالوا لهم إنا سنكون معكم وإن قريشاً قد بايعوهم على ذلك وجعلوا لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم على المسلمين[5].

 

فخرجت قريش في أربعة آلاف مقاتل على رأسهم أبو سفيان بن حرب يحمل لواءهم عثمان بن طلحة، وخرجت غطفان وفزارة وبنو مرة وبنو سليم وبنو أسد وبنو أشجع وعلى رأسهم عيينة بن حصن الفزاري الأحمق المطاع وطلحة بن خويلد الأسدي والحارث بن عوف المري وأبو مسعود بن رخيلة الأشجعي وكلهم صناديد أقوامهم في ستة آلاف مقاتل تتمة العشرة آلاف. ليخيما بمجمع الأسيال بالقرب من المدينة في ثلاثة عساكر وملاك أمرها إلى أبي سفيان.

 

ولم تنته مكيدة اليهود عند هذا الحد بل أرسل حيي بن أخطب إلى قريش بعد أن عسكروا بالقرب من المدينة – أن يرسلوا إليه ألف رجل، وإلى غطفان أن يأتيه منهم ألف رجل ليغيروا على المدينة من الخلف، فصار خوف رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق.

 

ولم يفت حيي بن أخطب موقع بني قريظة في المعركة وكان قد وعد قريشاً أنهم سيكونون معهم، وهم سبعمائة وخمسون مقاتلاً، فأتى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة فدق باب حصنه، فأبى أن يفتح له وألح عليه في ذلك فقال له: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه، لم أر منه إلا وفاء وصدقاً، فقال له: ويحك افتح لي أكلمك، فقال: ما أنا بفاعل، فغاظه، فقال له: والله ما أغلقت دوني إلا تخوفاً على جشيشتك[6] أن آكل معك منها، ففتح له، فقال له: ويحك يا كعب، جئت بعز الدهر، جئت بقريش حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال، وبغطفان حتى أنزلتهم بجانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وكل ما يخشى، فإني لم أر في محمد إلا صدقاً ووفاء ويحك يا حيي دعني وما أنا عليه.

 

فلم يزل حيي بكعب حتى أعطاه عهداً من الله وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يقتلوا محمداً أن يكون معه في حصنه ويصيبه ما أصابه. فعندئذ نقض كعب العهد وبريء مما كان بينه وبين رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – ومزقوا الصحيفة التي كان بها العقد. وجمع رؤساء قومه وأعلمهم بما صنع من نقض العهد وشق الكتاب الذي كتبه رسول الله  – صلى الله عليه وسلم –[7] وهذا ما يحدثنا به القرآن الكريم من أمر اليهود مع الأحزاب حيث يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 9 – 11].

 

كان اليهود المحرك للتجمع والحشود من الخارج، وكان المنافقون يثيرون الإشاعات والأراجيف بين صفوف المقاتلين خلف خطوط المسلمين، فمن قائل إن محمداً كان يعدنا بلاد فارس وقصور الشام ونحن الآن نخندق على أنفسنا من الخوف ولا يأمن أحدنا أن يذهب لقضاء حاجته، ومنهم من كان يتعلل بأوهى الأعذار ليترك الساحة ويفر من الميدان يزعم أن بيوتهم مكشوفة للعدو.

 

ولكن المؤمنين الصادقين كان لهم شأن آخر يقول الله تعالى عنهم: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22 – 24].

 

ولما وصل خبر نقض العهد من اليهود إلى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة إليهم للتأكد من الخبر فوجدوهم قد نقضوا العهد ونالوا من رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -، وتبرؤوا من عقده وعهده فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤه في الجاهلية، وشاتمهم سعد بن عبادة، فقال له سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى. وبعد أن اطمأن حيي بن أخطب إلى نجاح مخططه مع بني قريظة صار يمد قريشاً بالمؤن ليستمروا في حصار المدينة، وفي أحد الأيام وبينما طائفة من الأنصار خرجوا ليدفنوا ميتاً منهم بالمدينة صادفوا عشرين بعيراً لقريش محملة شعيراً وتمراً وتبناً، حمّلها ذلك حيي بن أخطب شداداً وتقوية لقريش، فأتوا بها رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – فتوسع بها على أهل الخندق[8].

 

ولما رجع المشركون خائبين وأرسل الله عليهم جنوده من الريح ومما لا يرى ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25].

 

كان لا بد من محاسبة بني قريظة على فعلتهم هذه وخيانتهم لله ولرسوله ولنقضهم العهد وغدرهم، ولعل رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – كان يريد استشارة الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك إلا أن الوحي لم يمهله فقد نزل جبريل عليه السلام ورسول الله  – صلى الله عليه وسلم – يغتسل من آثار المعركة فناداه: عذيرك[9] من محار ب، عفا الله عنك أو قد وضعتم السلاح قبل أن تضعه الملائكة؟ فقال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال فو الله ما وضعناه، إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم الحصون.. فأدبر جبريل عليه السلام ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقازق بني غنم، يقول أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار لبني قريظة[10].

 

فأذن مؤذن رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. ونادى المنادي يا خيل الله اركبي.

 

فسار إليهم رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – وقد لبس الدرع والمغفر والبيضة وأخذ قناة بيده، وتقلد السيف وركب الفرس، وكان معه ثلاثة آلاف مقاتل وحمل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلما مر على نفر من بني النجار وجدهم قد لبسوا السلاح ينتظرون رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – فقال: هل مر بكم أحد؟ قالوا: نعم، دحية الكلبي مرّ على بغلة بيضاء، وأمرنا بحمل السلاح، وقال لنا: رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – يطلع عليكم الآن فلبسنا سلاحنا وصففنا، فقال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -: ذاك جبريل عليه السلام، بعث إلى بني قريظة يزلزل حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم.

 

وحاصر رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – بني قريظة خمساً وعشرين ليلة، فلما أيقنوا أن رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كبيرهم كعب بن أسد:

يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً أيها شئتم، قالوا وما هي؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم ونسائكم وأبنائكم، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني إسرائيل، ولقد كنت كارهاً لنقض العهد، ولم يكن البلاء والشؤم إلا من هذا الجالس – يعني حيي بن أخطب وكان قد دخل معهم حصنهم حين رجعت الأحزاب وفاءً لكعب بما كان عاهده عليه – أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم؟ إنه يخرج بهذه القرية نبي فاتبعوه وكونوا له أنصاراً، وتكونوا آمنتم بالكتابين الأول والآخر، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره.

 

قال كعب: فإذا أبيتم عليَّ هذه، فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين السيوف، ولم نترك وراءنا ثقلاً حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نَهلك ولم نترك وراءنا نسلاً، وإن نظفر لعمري لنجدن النساء والأبناء.

 

قالوا نقتل هؤلاء المساكين ما خير العيش بعدهم؟

قال فإن أبيتم عليَّ هذه، فإن الليلة ليلة السبت وأن عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة، فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت وأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.

 

وقال لهم عمرو بن سعدى: قد خالفتم محمداً فيما حالفتموه، ولم أشرككم في غدركم فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية، وأعطوا الجزية، فوالله ما أدري يقبلها أم لا؟ قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك.

 

فلما لم تتفق كلمتهم على رأي أرسلوا إلى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – نباش بن قيس يعرضون عليه أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – أن يحقن دماءهم ويسلم لهم نساءهم والذرية، فأرسلوه ثانياً بأنه لا حاجة لهم بشيء من الأموال لا من الحلقة ولا من غيرها فأبى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -، ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – أن ابعث إلينا أبا لبابة – رفاعة بن المنذر – نستشيره في أمرنا – وكان حليفاً لهم مناصحاً لهم، وكان ماله وولده وعياله في بني قريظة فأرسله رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – إليهم، فلما رأواه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه من شدة المحاصرة وتشتيت مالهم فرقّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه: أي إنه الذبح[11].

 

ثم لم يجد بنو قريظة بداً من النزول على حكم رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – فعزل رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – المقاتلين وكانوا بين السبعمائة والثمانمائة وأمر بهم فكتّفوا، وعزل الذراري والنساء جانباً، فتدخل الأوس حلفاء بني قريظة في الجاهلية وطلبوا من رسول الله أن يعاملهم معاملة بني قينقاع حلفاء الخزرج، فأرضاهم رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – بأن يحكّم فيهم سيد الأوس سعد بن معاذ فرضي به الأوس وبنو قريظة ورسول الله  – صلى الله عليه وسلم -.

 

فأرسل رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – إلى سعد بن معاذ – وكان في خيمة رفيدة في مسجد رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – يعالج من السهم الذي أصابه يوم الخندق – فجاءه قومه وحملوه إلى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – وقد أحاطوا به وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فلما ألحوا عليه وأكثروا، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

 

وأراد سعد بن معاذ أن يستوثق بنفسه من تحكيم الأطراف جميعها له فقال لبني قريظة: أترضون بحكمي قالوا: نعم فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به، وقال للجهة التي فيها رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – وعلى من ههنا مثل ذلك وأشار إلى الناحية وهو معرض عن رسول الله إجلالاً له، فقال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم -: نعم. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتغنم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات.

 

وشقت الأخاديد في سوق المدينة، ثم أرسل إليهم يأتون بهم أرسالاً في الليل ليلقوا جزاء خيانتهم وغدرهم، فقتلوا وألقوا في تلك الخنادق ثم رد التراب عليهم في تلك الخنادق.

 

ولما أتي بحيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إليه رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – قال: ألم يمكّن الله منك يا عدو الله؟

قال: بلى، أبى الله إلا تمكينك مني، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل.

 

ولما جيء بسيد بني قريظة كعب بن أسد، قال له النبي  – صلى الله عليه وسلم -: يا كعب قال نعم يا أبا القاسم، قال: ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقاً بي أما أمركم باتباعي، وإن رأيتموني تقرؤوني منه السلام، قال: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك ولكنه على دين يهود[12].

—————————————————————————————————————–

[1]صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/339. والطبقات الكبرى لابن سعد 2/32.

[2]فتح الباري 8/340 والسيرة النبوية لابن كثير 3/13.

[3]فتح الباري 8/340 والسيرة النبوية لابن كثير 3/13.

[4] صحيح البخاري بشرح فتح الباري: 5/26 كتاب المغازي، انظر الكامل في التاريخ 2/146.

[5] انظر السيرة الحلبية 2/630.

[6] الجشيشة: هي أن تطحن الحنطة طحناً جليلاً ثم تجعل في القدر ويلقى عليها لحم أو تمر وتطبخ. انظر النهاية لابن الأثير: 1/273.

[7]انظر السيرة الحلبية 2/638.

وزاد المعاد لابن القيم 2/117، والسيرة النبوية لابن هشام بحاشية الروض الأنف 3/261.

[8]السيرة الحلبية 2/647.

[9]أي من يعذرك؟!.

[10]انظر السية النبوية لابن هشام 3/267. والسيرة النبوية لابن كثير 3/224 والسيرة الحلبية 2/658. وانظر قول أنس في صحيح البخاري: كتاب المغازي 5/50.

[11] ندم أبو لبابة على هذا التصرف واعتبره خيانة لله ولرسوله، فلم يرجع إلى رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – وإنما رجع إلى مسجد رسول الله فربط نفسه بسارية المسجد وآلى على نفسه أن لا يفك نفسه إلا للصلاة أو لقضاء الحاجة حتى تنزل توبته، ويكون رسول الله هو الذي يفكه. فنزل فيه قوله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. . ﴾ انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/268. وزاد المعاد لابن القيم 2/73.

[12]انظر السيرة الحلبية 2/668.