الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي

شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.

وإذا كانت هذه هي الدوافع القوية التي أدت على قيام الغرب ولجوئه إلى “الغزو الفكري” فإن هناك عوامل أساسية ساعدت على نجاح هذا الغزو وأدت إلى سرعة وسهولة انتشاره، ومن هذه العوامل نقتصر على ما يلي:

الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي:

بالرغم من أن الأوروبيين قد فشلوا في حروبهم الصليبية ضد المسلمين، وباءت حملاتهم بالفشل الذريع، إلا أن اتصالهم بالمسلمين طول قرنين من الزمان – من نهاية القرن الحادي عشر إلى آخر القرن الثالث عشر الميلاد – قد أتاح لهم أن يتعرفوا على ما لديهم من كنوز وثروات، وأن يطلعوا على حضارتهم وثقافتهم التي أسهمت في نهضتهم الحديثة، وأتاح لهم أيضاً أن يدركوا أثر الإسلام في وحدة المسلمين وفي قوتهم الذاتية، ومن ثم فإنهم عادوا إلى بلادهم وهم يفكرون في العودة للثأر والانتقام من المسلمين والقضاء على الإسلام، وراح هذا الاستعمار يبني النهضة الحديثة أولاً في بلاده كي يحقق تقدماً علمياً يتيح له بناء قوة عسكرية، ومضى في طريق النهضة والتقدم العلمي وبناء جيش قوي مجهز بأحدث الأسلحة حتى إذا ما أحس بتقدمه وتفوقه في مجال القوة العسكرية عاد إلى الشرق لتحقيق أطماعه، والثأر من الإسلام والمسلمين.

وفي خلال قرنين ونصف أي منذ بداية القرن السابع عشر الميلاد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تمكن الاستعمار الغربي المسيحي من السيطرة سيطرة تامة على المسلمين في وسط آسيا وشرقيها، واتخذ له نقطة ارتكاز رئيسة في أفريقيا، كما تمكن من نفوذه إلى قلب العالم الإسلامي، وبذلك طوق العالم الإسلامي من الشرق والغرب، وسلط ألاعيبه ودسائسه على بقية المجتمعات الإسلامية الأخرى بين هذين الطرفين، فوهنت هذه التجمعات وانحل عقدها، وسقط بعضها إثر بعض تحت نفوذ المستعمر الغربي، وما جاءت الحرب العالمية الأولى وانقضى أجلها حتى أصبح العالم الإسلامي كله تحت نفوذ هذا المستعمر[1].

وهكذا وقع العالم الإسلامي فريسة للغزو النصراني الحاقد، ورغم محاولات الغزاة تصوير هذه الحروب على أنها حروب استعمارية بحتة تهدف إلى السيطرة الاقتصادية إلا أنها كانت حروباً دينية بالدرجة الأولى.

ويدل على ذلك ما قاله “اللورد اللنبي قائد الجيوش النصراني في الحرب العالمية الأولى حين دخل فلسطين سنة 1917”: اليوم انتهت الحروب الصليبية، مما يعني أن استعمارهم لبلاد المسلمين امتداد لهذه الحروب التي سبق أن هزموا فيها، وأن محركهم الأول لهذا الاستعمار إنما كان الثأر والانتقام من المسلمين، بل إن “لويدجورج” وزير الخارجية البريطاني أطلق على الحرب العالمية الأولى اسم “الحرب الصليبية الثانية” كما أن “الجنرال غورو” بعد أن تغلب على جنود “ميسلون” عند دمشق توجه فوراً إلى قبر صلاح الدين – الذي أذلهم في الحروب الصليبية – وركله بقدمه قائلاً: “ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين”[2].

ومعنى ذلك أن العداوة بين الاستعمار والإسلام – كما يقول العقاد – عداوة تاريخية جغرافية نفسية، وتلك هي أصعب العداوات وأعمقها وأعصاها على التوفيق والنسيان[3]، وقد تتلخص العداوة بينهما في سطرين:

فالاستعمار الأوروبي يطمع في القارتين الآسيوية والأفريقية وفي هاتين القارتين يسكن المسلمون بمئات الملايين… ولو كان هؤلاء قوة سياسية فقط لهان خطبهم على الاستعمار بجميع أنواعه ولكنهم قوة روحية تندفع كالسيل إذا اندفعت، وتستقر كالصخر إذا سكنت، وتفارقها قدرتها على الغلبة والسيادة حيناً، فلا تفارقها قدرتها على الصمود والثبات.

وشاء القدر للإسلام أن يكون حارس الإنسانية والحرية في وجه الاستعمار، فلم يكن للاستعمار منذ نشأته طريق إلى الشرق إلا من خلال بلاد إسلامية[4].

ولذلك وصف الإسلام بأنه هو الجدار الوحيد ضد الاستعمار الأوروبي، بسبب حيويته البالغة، ودعوته إلى الجهاد، حيث نهض بالدور الأكبر في حشد جميع طاقات الأمة، حتى استطاعت اقتلاع الكيانات الاستيطانية الصليبية التي زرعها الغزاة الصليبيون في قلب وطننا العربي والإسلامي قرابة القرنين من الزمان.

ولقد تعلم الاستعمار من ذلك الحدث درساً نسيناه نحن المسلمين، فمنذ بدء الهجمة الاستعمارية الحديثة على بلاد المسلمين كانت عين كل دول الاستعمار على الإسلام تسعى لعزله، وتجريد الأمة منه كي لا تتسلح في مقاومة الغزوة الإمبريالية كما تسلحت به قديماً في صراعها ضد الصليبين[5].

ومن أجل ذلك تعاون المستعمرون في مختلف البلاد المستعمرة مع المنصرين والمستشرقين حيث اتفقوا فيما بينهم على إخراج المسلمين من الإسلام، وإذا لم يتيسر ذلك فيكفي تمييع علاقاتهم به، واستخفافهم بأحكامه، وهجرهم لقرآنه، واهتمامهم بمظاهره وأشكاله، فعلى سبيل المثال يقول اللورد كرومر أول معتمد بريطاني في مصر: “إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية على رأس هذه البلاد (يقصد مصر) هو تثبيت دعائم الحاضرة المسيحية إلى أقصى حد ممكن بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس، ولكن كان من الواجب – منعاً من إثارة الشكوك – ألا يعمل على تنصير المسلمين، وأن يرعى من منصبه الرسمي المظاهر الزائفة للدين الإسلامي كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك”![6].


[1] راجع الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي، ص15-16/ 23-24، مكتبة وهبة، ودراسات في الفكر الإسلامي الحديث للدكتور عبدالمقصود عبدالغني، ص93-94، مكتبة الزهراء-مصر.

[2] راجع احذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام للدكتور سعد الدين صالح، ص29-30.

[3] الإسلام والاستعمار، ص349، المجلد الثامن من مجموعة العقاد.

[4] راجع المصدر السابق، ص347-348.

[5] راجع الإسلام والمستقبل للدكتور محمد عمارة، ص51.

[6] مصر الحديثة، ج1، نقلاً عن واقعنا المعاصر لمحمد قطب، ص202.