إن المعصية ثقل وحمل يثقل كاهل صاحبه في الدنيا قبل الآخرة، فمهما تظاهر العاصي بالعزة والأنفة والبطر والأشر بين الناس، فإنه في قرارة نفسه وفي حسّه الداخلي صغير حقير تافه جبان يستشعر ذلك من نفسه في لحظات الصدق معها والتي تنتاب المؤمن بين الحين والآخر، وإلا لما كان مؤمنًا.
وعلى الداعية المربي أن يستغل هذه اللحظات العابرة لدى العاصي المذنب إن استشعرها، ويوسع من دائرة الإحساس بها كلما سنحت الفرصة ويجعلها تذهب بلذة المعصية العاجلة، ويفتح أمامه باب الأمل في السعادة الحقيقية التي تنتظر التائبين الآيبين إلى ربهم، ليتنسموا نفحاتها من خلال رحلة العودة إلى الله تعالى ويلقوا عن كواهلهم ثقل المعاصي، ويستشعروا عز الطاعة.
فإذا أدرك هذا التائب أن الله سبحانه وتعالى لا يرد الصادقين المتوجهين إليه تقطعت الحبال بينه وبين الماضي الذي يشده إليه ويعوقه من التوجه إلى مولاه.
بل على الداعية إلى الله أن يبرز عزة هذا المؤمن المتوجه إلى الله التائب من ذنبه حيث يفرح ربه بتوبته أكثر مما يتصوره هذا المذنب.
عن أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح”[1].
والتوبة الصادقة تجبّ ما قبلها مهما كان الذنب، ومهما أرَّق مضجع صاحبه فالذي بيده مقاليد الأمور يصرفها كيف يشاء لا يعجزه أن يغفر الذنب ويقلب الموازين يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 – 70].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم – أي حكمًا – فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاموا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة[2].
وفي رواية في الصحيح: “فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرّبي وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له”.
ولكن شرط هذه التوبة أن تكون نصوحًا، وقد ذكر أهل العلم للتوبة النصوح شروطًا ثلاثة:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدًا.
فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه ردّه إليه، وإن كانت حد قذفٍ ونحوه مكّنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها[3].
إن رحمة الله واسعة، فلا ييأسن مذنب من رحمة ربه.
عن عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنهما: “أن امرأة من جهينة أتت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله أصبت حدًا فأقمه عليّ، فدعا نبيّ الله – صلى الله عليه وسلم – وليّها فقال: أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني، ففعل، فأمر بها نبي الله – صلى الله عليه وسلم -، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟ قال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من جادت بنفسها لله عز وجل”[4].
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة حيث أكرمها بالتيسير والتسهيل فلم يربط التوبة بطقوس معينة وعلى أيدي وسطاء أو رجال دين كما لم يحدد للتوبة فترة أو زمنًا محددًا، فمتى توجه العبد إلى ربه وجده تجاهه.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها”[5].
هذا التحديد بالنسبة للبشرية عامة، أما بالنسبة لكل فرد فهناك مدة خاصة بكل شخص وهي وقت دنو الموت منه عند حضور سكرات الموت حيث يرفع التكاليف ويطلع المرء على مكانه، وترفع الحجب عن عينه.
عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:
“إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر”[6].
يقول تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 18].
وعلى المؤمن المبادرة إلى رحمة الله ورضوانه، قبل فوات الأوان فإن أحدًا لا يدري متى تكون غرغرته، فهادم اللذات يقتحم على الناس حياتهم ويقطع عليهم آمالهم، فكم من شاب قضى نحبه ولم يتمتع بزهرة شبابه وكم من كهل جمع ثروة وغنى وسيادة وعزًا فاختطفته المنية ولم يمهله للاستمتاع بها… وكم… وكم…
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ… ﴾ [التحريم: 8].
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53].
[1]انظر صحيح مسلم كتاب التوبة (8/93).
وقريب منه في صحيح البخاري كتاب الدعوات (7/146).
[2] رواه البخاري في صحيحه كتاب الأنبياء (4/149).
ومسلم في صحيحه كتاب التوبة (8/103).
[3] يقول محمد بن كعب القرظي: التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الإخوان، انظر تفسير الخازن (4/287).
[4] رواه مسلم في صحيحه كتاب الحدود (5/141) وأحمد في المسند (4/430).
[5]رواه مسلم في كتاب التوبة (8/100) وأحمد في المسند (4/395).
[6] رواه الترمذي في كتاب الدعوات (5/207).