الإجماع

شارك في التأليف الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي

تمهيد: عصمة الأمة الإسلامية:

الأمة الإسلامية آخر الأمم، ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وشريعتها أتم الشرائع وأكملها؛ لأن مصدرها الأساسي هو الوحي الإلهي.

وكان الوحي بشقيه: المعجز المتعبد بتلاوته (القرآن الكريم)، وغير المعجز وغير المتعبد بتلاوته (السنة النبوية)، ينقل عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم عن المخالفات الذي لا يقر على خطأ.

ولكن هذا المصدر (الوحي) انقطع بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحددت نصوص الوحي القرآن الكريم والسنة النبوية، ولا يستطيع أحد أن يزيد فيها شيئاً، وتكفل الله بحفظ كتابه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقام علماء الأمة بتدوين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وميزوا بين المقبول المحتج به، وبين غير المقبول الذي لا يؤخذ منه حكم شرعي.

والحوادث والقضايا لا تنتهي ما دامت الحياة مستمرة متجددة على هذا الكوكب، ولا بد من معرفة أحكام الحوادث والقضايا الجديدة، فكان أمام علماء الأمة -بتوجيهات من القرآن الكريم وإرشادات من السنة النبوية- أن يبذلوا الجهد (أي يجتهدوا)؛ لمعرفة الحكم الشرعي لما استجد من قضايا وحوادث، فإن اجتهدوا مجتمعين واجتمعت آراؤهم على حكم واحد كان إجماعاً، وهذا ما نفصل القول فيه.

 

تعريف الإجماع في اللغة والاصطلاح:

الإجماع في اللغة: يطلق على معنيين: العزم والتصميم، ويقال: أجمع فلان على الأمر، بمعنى عزم عليه وصمم. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له)[1]، أي: لم يصمم على الصوم من الليل، أي: لم يبيت نيته من الليل، وفي حديث عبدالرحمن بن كعب بن مالك (..أجمعت بنو النضير بالغدر..)[2] والمعنى اللغوي الثاني للإجماع هو: الاتفاق: يقال أجمع القوم على الحرب أو السلم أي اتفقوا عليه، ومن هذا المعنى قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: ﴿ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ﴾ [يونس: 71].

أي: اتفقوا على أمر واحد مع شركائكم الذين يناصرونكم في الملمات.

الإجماع في الاصطلاح – شرعاً-: هو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي.

المطلب الثاني: أضواء على التعريف الاصطلاحي:

اتفاق المجتهدين: والمجتهد من توفرت فيه ملكة استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، فلا بد من اتفاق علماء الشريعة الذين بلغوا درجة الاجتهاد، ولا عبرة بمخالفة غيرهم، ولو كانوا علماء في علوم أخرى كاللغة والطب والفلك.. وغيرها، ولو خالف واحد من المجتهدين لم ينعقد الإجماع.

من الأمة الإسلامية: لأن الإجماع يكون على قضايا الحلال والحرام من الأحكام الشرعية، فلا عبرة بأقوال غير المسلمين، ولو كانوا على اطلاع في علوم الإسلام؛ لأن القضية تشريع في الدين.

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فلا ينعقد الإجماع في حياة النبي لأنه عليه الصلاة والسلام مصدر التشريع، فإن خالف اتفاق الصحابة، فلا يعتد باتفاقهم عند مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا وافقهم الرسول صلى الله عليه وسلم على اتفاقهم كان ذلك سنة تقريرية.

في عصر من العصور: سواء كان هذا الاتفاق في عصر الصحابة أم من بعدهم ولو في عصرنا الحاضر.

على حكم شرعي: أي تكون القضية موضع الإجماع مما يتعلق بالحلال والحرام (كالوجوب والندب والحرمة ونحوها..)، أما القضايا الطبية: (كالدورة الدموية، وضغط الدم، وأقوال الأطباء في أنواع الأمراض وغيرها)، والقضايا الفلكية (كأقوالهم في المجموعة الشمسية وكواكبها…)، والقضايا الرياضية.. كل ذلك لا علاقة للإجماع به، وإنما يرجع فيها إلى أهل الاختصاص بهذه العلوم.

 

حجية الإجماع:

استدل جمهور العلماء على أن الإجماع حجة، ومصدر من مصادر التشريع، بأدلة من القرآن والسنة والمعقول:

أدلة حجيته من القرآن الكريم:

قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾[النساء: 115]، ووجه دلالة الآية على حجية الإجماع: أن الله تعالى توعد على مخالفة سبيل المؤمنين بالمصير إلى جهنم، فكان اتباع سبيلهم هو الحق الواجب الاتباع، ومخالفتهم حرام يجب اجتنابه.

 

أدلة حجيته من السنة النبوية:

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)[3] وفي رواية (إن أمتي لا تجتمع على خطأ)[4].

ومعنى ذلك أن الأمة معصومة عن الوقوع في الضلالة أو الخطأ، وأن العصمة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته انتقلت بعد وفاته إلى الأمة، وهذا تكريم لرسول الله في أمته أن لا تضيع معالم الهدى الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.

 

دلالة المعقول على حجية الإجماع:

فإن أمة كريمة على الله تعالى، وقد جاء الثناء عليها في آيات الذكر الحكيم كما في قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ… ﴾ [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً… ﴾ [البقرة: 143].

العقل يستبعد أن يتفق علماؤها المجتهدون على خطأ من غير أن ينقل ولو عن واحد منهم استنكار أو مخالفة لهذا الخطأ، بل يحتم العقل أن هذه الأمة معصومة من هذا الخطأ أو الضلالة.

أنواع الإجماع:

ينقسم الإجماع إلى صريح وسكوتي:

الإجماع الصريح:

فهو أن يبدي المجتهدون آراؤهم صراحة في المسألة أو القضية المطروحة، سواء أكانوا مجتمعين في مكان واحد، أم تلقيت آراؤهم فرادى، وبعد جمعها والاطلاع عليها من قبل الفئة التي قامت باستطلاع الآراء وجدوها متطابقة، أو أن فقيهاً أو مجموعة من الفقهاء قالوا رأياً ثم أبلغ به الآخرون، فكلهم وافقوا على هذا الرأي صراحة.. كل ذلك من صور الإجماع الصريح، وهذا النوع من الإجماع حجة قطعية لا يجوز مخالفتها ولا نقضها.

الإجماع السكوتي:

وهو أن يقول أحد المجتهدين أو مجموعة من المجتهدين رأياً، ثم يعمم هذا الرأي على الآخرين، فيسكتوا عنه فلم يوافقوا عليه صراحة، ولم يعارضوه صراحة.. مع عدم وجود مانع من إبداء الرأي حوله، وأن يتركوا مدة كافية لدراسة الرأي المقترح، وتقليب وجهات النظر حوله، وأن لا يكون هنالك ما يجعل المجتهد يمتنع عن التصريح برأيه، من خوف من سلطة جائرة، أو رهبة من أحد المتنفذين أو غير ذلك. واختلف العلماء في حجية هذا النوع من الإجماع، فذهب أكثر العلماء أنه حجة قطعية وهو كالإجماع الصريح، وإن كان أقل قوة من الإجماع الصريح، وذهب آخرون إلى أنه ليس حجة، وذلك لأنه لا ينسب إلى ساكت قول، كما أن السكوت لا يمكن حمله جزماً على الموافقة.. والراجح أن الإجماع السكوتي حجة، لأن الأمة لن تعدم من يجهر بالحق إذا رأوا أن ما اتفق عليه أمر لا يقره الشرع.

مستند الإجماع:

لا بد للإجماع من مستند يستند إليه المجمعون، سواء من: القرآن أو السنة أو قواعد الشريعة العامة أو القياس أو المصلحة العامة.. ولكننا غير مطالبين بالبحث عن مستندهم؛ لأن الإجماع بحد ذاته أصبح حجة شرعية لا يجوز مخالفته.

وفائدة الإجماع على ما ورد في القرآن أنه يجعله قطعي الدلالة.

وما ورد في السنة يرتفع بالإجماع عليه إلى قطعي الثبوت وقطعي الدلالة.

لذا نجد الفقهاء يقولون في الأحكام الفقهية: إنه ثبت بالقرآن والسنة وعليه الإجماع.

 

أمثلة على الإجماع:

1- من الإجماع المبني على القرآن:

الإجماع على حرمة نكاح الجدات وإن علون؛ لأنهن تدخلن تحت مسمى الأمهات ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23].

والإجماع على حرمة نكاح بنات الأولاد مهما نزلن لدخولهن تحت مسمى ﴿ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23].

والإجماع على إنزال أولاد الابن منزلة الأولاد الصلبيين عند فقدهم في الميراث، لأنهم يدخلون تحت مسمى الأولاد ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ… ﴾ [النساء: 11].

2- من الإجماع المبني على السنة:

الإجماع على إعطاء الجدة السدس في الميراث عند فقد الأم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، ولا يزيد نصيبها عن ذلك بخلاف الأم.

3- من الإجماع المبني على الاجتهاد أو المصالح:

إجماع الصحابة على جمع القرآن الكريم وكان مستندهم المصلحة.

والإجماع على النداء الأول لصلاة الجمعة لإعلام الناس بالصلاة لاسيما البعيدين منهم عن المسجد.

والإجماع على إيجاد دواوين الدولة وإنشاء المؤسسات الإدارية والاجتماعية؛ لتنظيم شؤون الدولة والمجتمع.

الإجماع في عصرنا الحاضر:

إن أموراً كثيرة استجدت في عصرنا الحاضر، وهناك تحديات كبيرة تواجه الأمة الإسلامية، ولا بد من رأي جماعي لعلماء الأمة الإسلامية حيالها.

فمثلاً من القضايا التي استجدت: الحكم الشرعي في نقل الأعضاء، والموت الدماغي، والاستنساخ للحيوان والإنسان، والشركات المساهمة، والبورصات المالية، والعولمة، والالتزام بالمؤسسات الدولية وأنظمتها وقوانينها كمنظمة الثقافة ومنظمة التجارة العالمية.. وغيرها، ولئن كان الاتصال يشكل عقبة في اجتماع المجتهدين في مكان واحد أو الاطلاع على آرائهم، فإن تطور وسائل الاتصال والانتقال في عصرنا الحاضر يسرت سبل اللقاء والاتصال، وإنما الحاجة الملحة تستدعي وجود جهة، إما دولة أو مؤسسة تتبنى مثل هذه المهمة.

وقد وجدت عدة مجمعات فقهية تنظر في القضايا الجديدة، ولكن دورها لا يزال غير فعال؛ إما لعدم وجود الدعم الكافي، أو لخضوعها لسياسات بعض الدول التي أنشئت فيها.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ للمسلمين سبل وحدتهم، وجمع كلمتهم، ويهيئ لهم أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، وأن يعيدهم إلى دينهم عوداً حميداً.


[1] رواه الترمذي رقم (730) باب ما جاء في: لا صيام لمن لم يعزم من الليل 3/108.

[2] رواه أبو داود رقم (730) باب خبر النضير 3/156. وانظر لسان العرب مادة (جمع) 8/57.

[3] رواه ابن ماجه رقم (3950)، ورواه الترمذي وقال: حديث غريب، ورواه الحاكم وقال: له شواهد.

[4] تأويل مختلف الحديث 1/20، والإحكام للآمدي 1/355.