سر اهتمام القرآن باليوم الآخر
شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
يرجع السر في عناية القرآن الكريم واهتماماته باليوم الآخر إلى ما يلي:
أولاً: إنكار المشركين واستبعادهم لوقوعه
إذا كان كفار مكة وغيرهم من كفار الأمم السابقة، قد أنكروا توحيد الألوهية بالرغم من إقرارهم لتوحيد الربوبية، فإنهم كانوا منكرين أشد الإنكار لليوم الآخر، ومستبعدين تمام الاستبعاد لقيام الناس من قبورهم بعد أن ماتوا وصاروا عظاماً ورفاتاً، حيث يقول قوم من هؤلاء عن نبيهم:
﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 34-37].
وجاء كفاء مكة فرددوا هذا القول حتى حكى القرآن عنهم ذلك في قوله تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 81-83].
ولذلك فإن الشهرستاني حينما تحدث عن معطلة العرب، ذكر من أصنافهم صنفين: صنف أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقولوا بالطبع المحيي والدهر المفني، وهؤلاء هم الدهريون – الذين سبق الحديث عنهم – وكان شعارهم “إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع”.
وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع، لكنهم أنكروا البعث والإعادة. وانتهى إلى أن شبهاتهم كانت مقصورة على شبهتين: إنكار البعث (بعث الأجسام) وجحد البعث (بعث الرسل). ويقول شارح الطحاوية: “فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن منكريه كثيرون”[1].
ثانياً: فساد تصور اليهود والنصارى لليوم الآخر
إذا كانت التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، والإنجيل المنزل على عيسى بن مريم – عليهما السلام – قد احتوى كل منهما على عقيدة الإيمان باليوم الآخر، كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم في كثير من آياته، فإن كلاً من اليهود والنصارى قد انحرف في تصوره لليوم الآخر عما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام[2]، فكان لا بد من تصحيح شامل ومفصل لما قاموا به من تضليل وإفساد، وما أحدثوه من تغيير وتبديل في عقائد أنبيائهم، فإن الأنبياء عليهم السلام كلهم – كما يقول شارح الطحاوية – متفقون على الإيمان بالآخرة[3].
ثالثاً: أثر الإيمان باليوم الآخر
إن الإيمان باليوم الآخر له أثر عظيم: وتأثير عجيب في توجيه وضبط سلوك الإنسان على مستوى الأفراد والمجتمعات، مما يؤدي إلى الالتزام بمحاسن الأخلاق وشيوع التعاون على البر والتقوى، وترك التعاون على الإثم والعدوان، والحث على فعل الخيرات، وترك المنكرات، والدعوة إلى التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال ما يحدثه الإيمان بالآخرة من مراقبة الله عز وجل في السر والعلن، والطمع في ثوابه، والخوف من عقابه، يقول تعالى عن القرآن الكريم: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [الأنعام: 92]، ويقول سبحانه ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾ [المؤمنون: 74].
رابعاً: عموم وخلود رسالة الإسلام
لما كان النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ولما كانت رسالته متضمنة عناصر البقاء والخلود؛ لأنها للناس كافة، وباقية إلى أن تقوم الساعة، ولما كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، وكان لا بد أن يتضمن الحديث عن اليوم الآخر بالتفصيل، وأن يأتي على قضية البعث بالقول الفصل.
يقول شارح العقيدة الطحاوية: “ومحمد لما كان خاتم الأنبياء وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفى، بين تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء” ومن أجل ذلك فإن: “الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن”[4].
[1] راجع الملل والنحل، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ج2، ص589، ولمزيد من التفاصيل حول الإيمان باليوم الآخر راجع دراسات العقيدة الإسلامية للدكتور فتحي محمد الزغبي الجزء الرابع: السمعيات، 1420هـ-2000م.
[2] راجع التفاصيل في: اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام للدكتور فرج الله عبدالباري، دار الوفاء – مصر.
[3] راجع شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ج2، ص590، طبعة مؤسسة الرسالة.
[4] راجع شرح الطحاوية، ج2، ص589، عند قول الطحاوي: ونؤمن بالبعث، طبعة مؤسسة الرسالة.