دروس من غزوة بدر الكبرى
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله، وبعد:
فإن لله أيامًا تكون مَعالمَ بارزة في تاريخ البشرية، ولله وقائعُ وأحداثٌ تكون منعطَفاتٍ في مجرى التاريخ البشري، ومن هذه الأيام يومُ بدر، ومن هذه الأحداث غزوة بدر.
سمَّاه الله سبحانه وتعالى: يومَ الفرقان، يقول عزَّ مِن قائل: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41].
والسؤال الذي نطرحه بادئ ذي بدء:
ما الحكمة في أن تكون لهذا الموقعة هذا الشأنُ؟ وما الحكمة في أن يكون لهذا الانتصار هذه القيمة؟
لقد وقعَت وقائعُ في التاريخ الإسلامي أعظمُ من هذه الغزوة عددًا، ووُجدَتْ فتوحات لأمصار كانت أكثرَ غنائم، وتغلَّب المسلمون على جيوش أقوى عتادًا وأكثر أعدادًا، ولم يكن لتلك الفتوحات هذا الصدى، ولا هذه الأهمية، فما عظمةُ بدر وأهلِها؟ وما هذه المكانة السامقة التي تبوَّؤوها في التاريخ الإسلامي؟!
1 – تعظيم الله سبحانه وتعالى لشأن هذا اليوم وتعظيم مَن حضره من المسلمين والملائكة:
إننا نقول إجمالاً: إن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه المكانةَ لهذه الغزوة عندما سمَّى يوم بدر: يومَ الفرقان؛ حيث فرَّق به بين الحقِّ فأظهرَه، وبينَ الباطل فخَذَله، وفرَّق بين عهدين؛ عهدِ الصبر والمصابرة والانتظار، وعهدِ الانطلاق ونشر الحق مدعومًا بالقوة.
وعظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنِ أهلها، فقال: ((لعلَّ اللهَ اطَّلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم))، بل عظَّم الله شأن الملائكة الذين اشتركوا في بدر، ففي صحيح البخاري: “جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدُّون أهلَ بدر فيكم؟ قال: ((من أفضل المسلمين)) قال: وكذلك مَن شهد بدرًا من الملائكة[1]“.
2 – الأهمية حسب الحاجة:
إن الشيء يأخذ أهميةً زائدة، وقيمة عظيمة إذا جاء في وقته المناسب؛ فالجهاد والإنفاق في سبيل الله لإعلاء كلمة الله قبل الفتح – فتح مكة – حيث كانت الدولةُ الإسلامية مستضعفةً، والمسلمون قلة، والحاجة إلى المال ماسة، فالجهاد والإنفاق في هذا الوقت أفضل وأعظم أجرًا مِن بعدِ الفتح؛ حيث جاء نصرُ الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، يقول عز من قائل: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبَقَ درهمٌ مائةَ ألف درهم؛ رجل يملك درهمين فتصدق بأحدهما، ورجل أخذ من عرض ماله مائة ألف فتصدق به))، فالأول تصدَّق بنصف ماله، أما الآخر فلم يتأثَّر ماله بشيء.
3 – الأهمية حسب حال المنفق أو العامل:
وأهل بدر بذَلوا أغلى ما يملكون في سبيل نصرة الإسلام، وبذلوا أرواحهم…
4 – يوم بدر يومٌ انقلبت فيه الموازين؛ خفَّت موازينُ الأسباب المادية، وثقلت الموازين المعنوية الغيبية:
إن بدرًا كانت أول معركة تلتقي فيها فئة قليلة مؤمنة مع كثرة مشركة، كانت كلُّ عوامل النصر والمظاهر المادية والأسباب الظاهرة ترشِّح الكثرة للفوز والانتصار، وكل الأسباب الظاهرية تقول بهزيمة القلة، حتى قال بعض المنافقين عن الفئة المؤمنة: ﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49] لقد كانوا يرون أن الفئة المؤمنة تُلقي بنفسها في التهلكة، وأنها مُقدمة على الانتحار.
فكانت بدرٌ قلبًا لهذه المفاهيم مفاهيم النصر والهزيمة؛ ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249].
5 – لقاء بين فريقين ورايتَيْن: راية إبليس وتحتها أبو جهل، وراية جبريل وتحتها محمد صلى الله عليه وسلم:
شهدَت بدرٌ حشدًا بين جندين: جند إبليس، وقد تبدَّى في صورة سُراقة بن مالك بن جُعشم المدلجي، وهو يقول للمشركين: “أنا لكم جارٌ مِن أن تأتيَكم كنانةُ مِن خلفكم بشيء تكرهونه”، ولما رأى إبليسُ ما تفعل الملائكة بالمشركين أشفَقَ أن يَخلُص القتل إليه، فتشبَّث به الحارث بن هشام – وهو يظن أنه سراقة بن مالك – فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربًا حتى ألقى بنفسه في البحر، ورفع يده فقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي! وخاف أن يخلص إليه القتل.
وتحت راية إبليسَ أبو جهل وهو يحرِّض المشركين على القتال؛ يقول: يا معشر الناس، لا يهولنَّكم خِذلانُ سُراقة إياكم؛ فإنه كان على ميعاد مع محمد، لا يهولنَّكم قتلُ عتبة وشيبة ابني ربيعة؛ فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزَّى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، فلا ألفِيَنَّ رجلاً قتل رجلاً منهم، ولكن خُذوهم أخذًا؛ حتى تعرِّفوهم سوء صنيعهم من مُفارقتهم إياكم، ورغبتهم عن اللات والعزى[2].
أما الجند الآخر فربُّ العالمين يرعاهم؛ ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 12، 13].
معركةٌ على رأسها إبليس وأبو جهل من طرَف، وجبريلُ ومحمد عليهما السلام من طرف آخر، هل يمكن أن يكون في الوجود كلِّه أخطرُ منها وأهم؟!
ومما يشير إلى مدى خِزي إبليس واندِحاره ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رؤي الشيطانُ يومًا أصغرَ ولا أدحرَ ولا أحقرَ ولا أغيظَ منه يومَ عرفة، وما ذاك إلا لِمَا يَرى فيه من تنزُّل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام – إلا ما رآه يومَ بدر؛ فإنه رأى جبريلَ عليه السلام يَزَعُ الملائكة))[3].
الدرس الأول: العتو والجبروت والطغيان تودي بأصحابها:
استكبار: لما سمع أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليتعرض للقافلة ساحل بالقافلة وترك السابلة، فلما نجا أرسل إلى قريش ضمضَم الغفاري ليُخبرهم أن تجارتهم قد نجت، فلا داعي لملاقاة محمد وأصحابه، وارجعوا إلى دياركم، ولما سمع أبو جهل الخبرَ قال في غطرسة واستكبار وحقد وغرور: والله لا نرجع حتى نَرِد بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا، ننحَر الجزُر ونُطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتَعزف علينا القِيَان، وتسمع بنا العرب، فلا يَزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا.
• في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم هذه قريش قد أقبلَت بخيلائها وفخرها تحادُّك وتكذِّب رسولك، اللهم فنَصْرَك الذي وعدتَني، اللهم أحنِهم الغداة)).
غرور وتزيين الباطل: ولقد كان أبو جهل على قناعة بما زيَّنَت له نفسه الطاغية أنه الحق؛ فقد قال: اللهم أقطَعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنِه الغداة.
• ضلال أبي جهل: وعندما عرض المدَد عليهم خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، أرسل طغاةُ قريش إليه: أن وصلَتْك رحِم فقد قضيتَ الذي عليك، فلعمري لئن كنَّا إنما نقاتل الناس فما بنا مِن ضعفٍ عنهم، ولئن كنا إنما نُقاتل الله – كما يَزعم محمد – فما لأحدٍ بالله مِن طاقة[4].
لذا جاء الجواب الرباني على طغيانهم وغرورهم وسفَهِهم: ﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 19].
الدرس الثاني: كيف يحوز القائد على ثقة الجند ومحبتهم؟
1- عن طريق الشورى:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتدب للخروج إلى بدر مَن كان ظهرُه حاضرًا خوفَ فوتِ القافلة؛ حسب الأخبار التي ورَدَته من عُيونه الذين أرسلَهم للاستطلاع، ولم يَنتظر أهل العوالي – الذين يَسكنون ضواحيَ المدينة – لذا لم يَخرج جميع الصحابة، فلما كان في الروحاء قريبًا مِن بدر، جاءته الأخبار بقدوم جيشِ قريشٍ لحماية القافلة.
وتغيَّر الحال؛ فهم خرجوا لاعتراض القافلة وليس فيها سِوى خمسين مِن الحراس، والآن يُجابهون جيشًا قد أخذ أهبتَه للقتال، فلم يشَأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يستبدَّ برأيه – وهو المؤيَّد بالوحي من الله تعالى – وإنما قال: ((أشيروا عليَّ أيها القوم))، ولم يكتفِ بقولِ واحدٍ أو اثنين وسكوتِ الآخرين، قال أبو بكر فأحسن، وقال عمرُ فأحسن، وقال المقدادُ فأحسن، وهو يقول: ((أشيروا عليَّ أيها القوم))، إلى أن قال سعدُ بن عُبادة وسعدُ بن معاذ وهما سيِّدا الخزرج والأوس، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((سيروا وابشروا؛ فإن الله تعالى وعَدني إحدى الطائفتين العير أو النفير)).
بل تنازلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه في اختيار مَكان المعسكر عندما أشار عليه الحُباب بن المُنذِر بأن يتحوَّل مِن مكانه ويجعَل ماء بدر خلفَ معسكره؛ لئلاَّ يَستفيد منه المشركون.
إن التشاور يوحِّد القلوب، ويرصُّ الصفوف، ويجعل النفوس تبذل أقصى طاقاتها؛ لأن كلاًّ منها تشعر أنها صاحبةُ القرار، ولا يتوانى أحدٌ عن بذل الجهد وإن أصيبَت الجماعة بمصيبة لا مجال لأحدٍ ن يقول: لو أخَذوا برأيي لكان كذا وكذا.
ووَحدة الكلمة ورصُّ الصفوف حول القائد من أهم الأسباب في نتائج المعارك.
2- مساواة القائد بالجند:
كان مع المسلمين في مسيرتهم إلى بدرٍ سبعون بعيرًا يتَعاقبون على ركوبها؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو لُبابة وعليُّ بن أبي طالب يتَعاقبون على بعيرٍ واحد،..، فأرادا أن يُؤثِراه بالركوب، فقال: ((ما أنتُما بأقوى منِّي، ولا أنا بأغنى عنِ الأجرِ مِنكم))!
عندما يَستوي القائد والجند في تحمُّل المشاقِّ والشدائد، ويدفعهم الصدقُ والإخلاص في التطلع إلى ثواب الله ورضوانه، فإن الجنود يَكسبون طاقة إضافية عندما يجدون قائدهم يُسابقهم إلى البذل والتضحية، وكيف لا تَستولي محبته على قلوبهم وهو الرؤوف الرحيم بهم.
3- عدالة القائد حتى في أحلَكِ الظروف:
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفُّ الجند للمجابهة، ويسوِّي الصُّفوف كان صدر سواد بن غزية بارزًا، فلامَس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بطنَه بعَصاه وهو يَقول: ((استَوِ يا سواد))، فقال سواد: يا رسول الله أوجعتَني فأقِدني من نفسك، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريف، وقال: ((استقد يا سواد))، فما كان من سواد إلا أن أكبَّ على بطن رسول الله صلى الله عليه سلم وهو يقبِّله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حملَك على هذا؟)) فقال: يا رسول الله، لقد حضَر ما ترى فأحببتُ أن يكون آخر أمري أن يُلامس جسَدي جسدَك.
إن القائد الذي لا يترفَّع عن جنده، بل يُمكِّنهم مِن أخذ حقِّهم كاملاً، ولا يجد غَضاضة من مكانته عندما يطلبه أحدٌ بحق، إنه القائد العادل المؤتمن الذي يَفديه الجنودُ بأرواحهم للإبقاء على حياته وقيادته.
الدرس الثالث: اعقلها وتوكل:
لا تنافيَ بين الأخذ بالأسباب – والتوكل على الله تعالى؛ فقد استقصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المعلومات حول قريش من كل الجهات:
1- أرسل طلحةَ بن عبيدالله وسعيد بن زيد يتحسَّسان أخبار العير قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وشهدا مرور العير من أرض جهينة.
2- وبعث عدي بن الزعباء وبسبس بن عمرو إلى ماء بدر، واستطاعا أن يُحددا الوقت المتوقَّع لوصول العير إلى بدر.
3- وحين غيَّرَت العير اتجاهها وساحل بها أبو سفيان، وأصبحَت المواجهة مع جيش، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، وحدَّد الموقع الذي وصل إليه جيش قريش من خلال لقائهم مع الشيخ الأعرابي، فسأله عن قريش وعن محمَّد وأصحابه وما بلَغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبرني ممن أنتم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أخبرتَنا أخبرناك))، قال: أو ذاك بذاك؟ قال: ((نعم))، قال الشيخ: فإنه قد بلغني أن محمدًا وأصحابه خرَجوا في يوم كذا وكذا؛ فإن كان صدَق الذي أخبرني فهُم اليوم بمكانِ كذا وكذا – للمكان الذي به رسولُ الله وأصحابُه – وبلَغني أن قريشًا خرَجوا في يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدَقني فهُم اليوم بمكان كذا وكذا؛ للمكان الذي به قريش.
فلما فرَغ مِن خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن مِن ماء))، ثم انصرف، فقال الشيخ: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟[5].
4- وحين بعَث عليَّ بن أبي طالب، والنفرَ الذين معه، فاستاقا الغلامين مِن قريش، وعرف منهما عددَ جيش قريش… قال لهما: أخبِراني عن قريش، قالا: هما والله وراءَ هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كَمِ القوم؟)) قالا: كثير، قال: ((ما عدتهم؟)) قالا: لا نَدري، قال: ((كم يَنحَرون كلَّ يوم؟)) قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القوم فيما بين التِّسعمائة والألف)). ثم قال لهما: ((فمَن فيهم مِن أشراف قريش؟)) قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البَختَري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خُويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزَمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونُبيه ومنبِّه ابنا الحجَّاج، وسُهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدودٍّ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وقال: ((هذه مكَّة قد ألقَت إليكم اليوم أفلاذ أكبادها))[6].
فأصبحَت الصورة كاملة لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العدوِّ وموقعه، وعدَدِه وشخصياته.
واتخاذ هذه الأسباب كلها لا تُنافي حسنَ التوكل على الله سبحانه وتعالى، فلا يقولنَّ أحدٌ: إن كنَّا على الحق، ومنهجُنا صحيحًا في العمل، فلا داعي للأسباب؛ فمِن المنهج الصحيح الأخذُ بالأسبابِ المادية والمعنوية كلها.
الدرس الرابع: الشجاعة والفدائية في أحداث المعركة:
وأثرها على نتائجها، وكلمات خلَّدَت ذِكر أصحابها هنالك مواقفُ يسجلها التاريخ لأصحابها، وهنالك كلمات يبقى دويُّها على مدى التاريخ تؤثر في الأحداث، بل ترقى عليها:
1- لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خبر نجاة العير، وقدوم النفير استشار أصحابه قائلاً: ((أشيروا عليَّ أيها الناس))، فقام أبو بكر وتكلَّم فأحسَن، وقام عمرُ فتكلَّم فأحسن، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد كلام كلِّ واحد منهم: ((أشيروا علي أيها الناس))، وإنما يريد الأنصارَ، فقال سعد بن معاذ: والله لكأنَّك تُريدنا يا رسولَ الله؟ قال: ((أجل))، قال: فقد آمنَّا بك وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك؛ فوالذي بعثَك بالحق لو استعرَضتَ بنا هذا البحر فخُضتَه لخُضناه معك، ما تخلَّف منا رجل، وما نَكْره أن تَلقى بنا عدوَّنا، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدق عند اللقاء، لعل الله يريك منَّا ما تَقرُّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله[7].
وقال سعد بن عبادة: إيَّانا تريد رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخيضَها البحار أخَضناها، ولو أمرتَنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغِماد لفعَلنا[8].
• وقال المقداد بن عمرِو بن الأسود: يا رسول الله، امض لما أراك الله؛ فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مُقاتلون، فوالذي بعثك بالحقِّ لو سِرتَ بنا إلى بَرْك الغِماد لجالَدْنا معك مِن دونه حتى تبلغَه[9].
يقول ابن مسعود: شهدتُ من المقداد بن الأسود مَشهدًا لأَن أكون صاحبه أحبُّ إليَّ مما عُدِل به[10].
2- عن عبدالرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرتُ عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثةٍ أسنانُهما، تمنيتُ أن أكون بين أضلَعَ منهما فغمَزني أحدهم فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتُك يا ابن أخي؟ قال: أُخبِرتُ أنه يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيتُه لا يفارق سوادي سوادَه حتى يموتَ الأعجَلُ منا… فلم أنشب أن نظرتُ إلى أبي جهل يَجول في الناس، فقلتُ: ألا إن هذا صاحبُكما الذي سألتُماني، فابتَدراه بسيفَيهما، فضرَباه حتى قتَلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبَراه، قال: ((أيُّكما قتَلَه؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتلتُه، فقال: ((هل مسَحتُما سيفَيكما؟)) قالا: لا، فنظر في السيف فقال: ((كلاكما قتله))، وأعطى سَلَبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن الجموح[11].
3- بعد أن صفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين تجاه المشركين صفوفَهم للصلاة، قال: ((لا يُقدِمن أحدٌ منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونَه))، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى جنَّة عَرضها السَّموات والأرض)) فلما سمع عُمير بن الحمام الأنصاري ذلك قال: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم))، قال: بخٍ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءَةَ أن أكون مِن أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمراتٍ مِن قرنه فجعَل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حَييتُ حتى آكل تَمراتي هذه إنَّها لحياة طويلة! فرَمى بما كان معه من التمر، ثم انطلق وهو يقول:
رَكضًا إلى الله بغيرِ زادِ
إلا التُّقى وعمَلَ المعادِ
والصَّبرَ في الله على الجهادِ
وكلُّ زادٍ عُرضة النَّفادِ
غيرَ التُّقى والبرِّ والرشادِ
وقاتلَهم حتى قُتل[12].
الدرس الخامس: تحديد الهدف ووحدة الكلمة حوله من عوامل النصر:
لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدف، ووحَّد الكلمة حول التوجه لملاقاة الجيش، بعد الاستشارات التي أجراها، واطَّلع من خلالها على رأي المهاجرين والأنصار، فالاستعداد للمواجهة، والقيادة بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصف متراصٌّ واحد.
أما في الجانب الآخر فلم تكن الكلمة موحَّدة حول الهدف، ولم تكن القيادة بيدِ واحد، وكان التنافس على الظُّهور في الساحة على أشُدِّه، وكلٌّ يحاول جرَّ الرأي العامِّ إلى جانبه.
ويظهر ذلك من خلال النقاط التالية:
• كان الهدف من الخروج حماية القافلة، فلمَّا علم القوم بنجاة القافلة اختلفَت آراؤهم في الاستمرار أو العودة إلى مكة.
1- كان أبو جهل يرى الاستمرار حتى الوصول إلى بدر، والنزول به ثلاثة أيام؛ يَنحَرون ويأكلون، وتضرب القيناتُ الدفوف؛ لإدخال هيبة قريش إلى قلوب العرب جميعًا.
2- وكان رأي عُتبة بن ربيعة ومَن معه العودة إلى مكة، وكان يحاول إقناع الناس بذلك.
3- ولم ينتظر الأخنسُ بن شَريقٍ إجماعَ الرأي؛ بل طلب من بني زُهرة العودةَ إلى مكة فورًا – وكان مطاعًا فيهم – فرجعوا، فلم يشهد زُهريٌّ بَدرًا.
4- ولم يَكفَّ عتبة بن ربيعة عن محاولاته في الإقناع والرجوع، فكان يردِّد بين صفوف جيش المشركين وهو يقول: يا قوم…
5- حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رآه يتنقَّل بين الصفوف: ((إن يَكن في أحدٍ مِن القوم خيرٌ فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يُطيعوه يَرشُدوا)).
6- مشى حَكيم بن حِزام إلى عُتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيِّدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تَزال تُذكَر بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: تَرجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرِو بن الحضرمي. قال: قد فعلتُ وهو حَليفي على عقله – ديَتِه – وما أصيب من ماله، فأتِ ابن الحنظليَّة (أبا جهل)؛ فإني لا أخشى أن يجسر أمر الناس غيره.
ثم قام عتبة خطيبًا فقال: يا مَعشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقَوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتُموه لا يزال الرجلُ يَنظر إلى وجه رجلٍ يَكره النظر إليه؛ قتَل ابنَ عمه، أو ابن خاله، أو رجلاً مِن عشيرته، فارجعوا وخلُّوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتُم، وان كان غير ذلك لم نتعرَّض منه لما تكرهون.
ولما وصل الخبر إلى أبي جهل اتَّهم عتبة بالجبن، وأوعز إلى عامر بن الحضرمي أن يَنشُد مقتل أخيه.
فقام ينادي: واعَمراه، واعَمراه!
فتغلَّب الشر على محاولات الخير، وحَميَت النفوس وبدأَت المعركة.
الدرس السادس: الخوارق في بدر ودلالاتها:
1- مصارع القوم:
بعد استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه في لقاء القوم – وقد سمع بخروج قريش لحماية القافلة – وسماعِه قولَ سعد بن معاذ سيد الأنصار: “قد آمنَّا بك وصدقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكرَه أن تلقى بنا عدوَّنا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله”.
فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر مصارع القوم))[13].
2- مدد الملائكة:
بعد أن اصطفَّ الفريقان، وألحَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء وهو يقول: ((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئتَ لم تُعبد))…
جاء المدد من الله سبحانه وتعالى فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا جبريلُ آخِذٌ برأس فرسه، عليه أداةُ الحرب))[14].
وأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9].
عن ابن عباس قال: “بينما رجلٌ مِن المسلمين يومئذ يشتدُّ في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سَمع ضربة بالسوط فوقه، وصوتُ الفارس يقول: أقدِمْ حيزومُ! فنظر إلى المشرك أمامه فخرَّ مستلقِيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفه وشُقَّ وجهه كضربة السَّوط، فاخضرَّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاريُّ فحدَّث بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((صدقتَ، ذلك مِن مدد السماء الثالثة))، فقتَلوا يومئذ سبعين، وأسَروا سبعين”[15].
وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبدالمطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسَرني، أسَرني رجلٌ أجلحُ مِن أحسن الناس وجهًا على فرَس أبلقَ ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسَرتُه يا رسول الله، قال: ((اسكت؛ فقد أيَّدَك الله بملَكٍ كريم))[16].
ملحوظة: أُسِر من بني المطَّلب يوم بدر: العباس، وعَقيل، ونوفل بن الحارث.
3- الحصى في عيون القوم:
وعندما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعائه أخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوه القوم وقال: ((شاهت الوجوه)) فانهزموا، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17][17].
والسؤال الذي يَفرض نفسه: هل هذه الخوارق خاصةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، أو إنها عامة للأمة إذا توفَّرَت الدواعي؟
يظن بعض الناس أن تأييد الله للمؤمنين بالملائكة وبغيرهم من جنده انقطَع بوفاة رسول الله، وكأن الله سبحانه وتعالى ترك أمور الدنيا لأهلها يتصرَّفون كما شاؤوا من غير تدخُّل منه؛ فكأن هؤلاء لا يقرَؤون قول الله تعالى: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]؛ يَخفِض أقوامًا ويَرفع أقوامًا، ويُعز أقوامًا ويذل أقوامًا، ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]، ووعدُ الله مستمرٌّ إلى يوم القيامة: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].
الدرس السابع: الطبيعة البشرية وتطلعاتها لا تؤثر في ثواب أصحاب الفضل ومكانتهم:
1- عندما سمع الصحابة رضوان الله عليهم بنجاة القافلة، وعزَم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مقابلة الجيش – كَرِه بعض الصحابة تحوُّل الأمر إلى مُجابَهة مع عدوٍّ أخذ أهبته للقتال؛ وذلك:
أ- لأنهم لم يَأخذوا عدة الحرب واستعدادهم لمجابهة الجيش، فقد انتدبَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض القافلة بقوله: ((هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله يُنفِلكُموها)).
ومهما كان حرَّاس القافلة فلن يبلغوا مائةً، وقد كانوا خمسين فقط، والمسلمون أضعاف هذا العدد.
ب- لم يَستنفروا جميع الصحابة لنفس السبب السابق، بل خرج مَن كان ظهرُه حاضرًا، وقد تخلَّف أناسٌ ذَوو شأنٍ وبأس في القتال؛ لأنهم كانوا لا يتوقَّعون قتالاً.
وقد وصف القرآنُ الكريم هذه الحالة النفسية لبعض الصحابة رضوان الله عنهم بقوله: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 5 – 7].
فإن هذا الشعور الجبِلِّي لدى بعض الصحابة لم يؤثِّر على قرارهم في خوض المعركة، ولم تُراود واحدًا نفسُه للتخلف عن المسير؛ لذا فإن الأحاسيس النفسية والمشاعر الجِبلِّية لا يحاسَب عليها الإنسان مالم تُترجَم إلى أقوال وأفعال.
أما كشفُ القرآن الكريم عنها فالله سبحانه وتعالى – المطَّلِعُ على ما تُخفي الصدور – ذكَرَها ليبني عليها أنَّ الخيرةَ فيما اختار الله لجنده وعباده الصالحين، وأن الحكمة الربَّانية اقتضَت هذا اللقاء؛ لما يترتَّب عليه من إعزاز للإسلام والمسلمين، فكانت (بدر) درَّة ناصعة على جبين التاريخ البشري، وكان الصحابة الذين خاضوها ذؤابةَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونُبلاءهم وأفضلَهم.
2- عندما هزم الله المشركين انطلقَت طائفة من المؤمنين في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبَّت طائفةٌ على المعسكر يَجمعون الغنائم، وأحدَقَت طائفةٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يصيب العدوُّ منه غِرَّة.
فلما كان الليل واجتمع الناس قالت كلُّ طائفة: إنها أحقُّ بالغنائم، فنزل قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1]، فقسمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فَوَاقٍ بين المسلمين؛ أي: بالتساوي بينهم، بعد أن أخرَج الخمس منها كما جاء في آية الغنيمة[18].
إن هذه المجادَلة بين الصحابة رضوان الله عليهم حول كيفيَّة قِسمة الغنائم، وقبل أن يَنزل بخصوصها شيءٌ من القرآن، ولم تكن هنالك سابقةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حول قسمتها – أمرٌ عادي أيضًا؛ لأن المرء يتَساءل: يا هل ترى سيَكون التوزيع بالتساوي، أو تكون هنالك خصوصيات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أعلن – قبل بدء المعركة أو أثناءها – أنَّ مَن قتل قتيلاً فله سلَبُه، فهل سيخصُّ أيضًا مَن حاز شيئًا من الغنائم بشيءٍ زائد على غيره؟
قبل بيان الحكم الشرعي في ذلك تَرِد مثلُ هذه التساؤلات، وخاصة أن الناس قد فرَغوا من المعركة، ولا شيء آخر يَشغَلهم، فما إن اتَّضَح الحكمُ في الغنائم وكيفيَّة توزيعها حتى ثاب الناسُ إلى طاعة الله ورسولِه، واختفى كلُّ خلاف، وهذا شأن المسلم؛ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36].
ولذا لم يَرِد عتابٌ للصحابة ولم تَرِد مؤاخذةٌ على مُجادلتهم حول الغنائم، بينما جاءت تعليقاتٌ لاذعة على مواقف بعض الصحابة قُبيل المعركة، وأبرزَت الآياتُ الخوارقَ الكثيرة أثناء سير المعركة؛ كل ذلك لحِكَمٍ تربوية، لكيلا تفتَخر النفوسُ بدَورها في النصر، وبذاك يَذهب الأجرُ والثواب، وليعلمَ المؤمنُ أن النصر بيدِ الله أولاً وآخرًا؛ ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 10].
بينما نجد في التعليقات على أحداثِ غزوة أحُد كما في سورة آل عمران – التسلية والتخفيف على النفوس الجريحة التي ذاقَت مرارة الهزيمة، ونُكبَت بالقتل، بعد أن كانت الغلَبةُ لها في بداية المعركة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 139 – 141].
وهذا هو المنهج التربويُّ المتوازِن في القرآن الكريم؛ فلو جاء الثَّناء والمجد على صَنيع الصحابة في بدر لوَجد الغرورُ إلى بعض النفوس طريقَه، ولو جاء العتاب والتأنيب على مواقف الصحابة في أحد، لأخذ اليأسُ والأسى طريقه إلى النفوس.
الآثار المترتبة على غزوة بدر:
يحاول بعضُ أعداء الإسلام التهوينَ من شأن بدر، ويقولون: مجموعة من قطَّاع الطرق تعرَّضوا لقافلة تجارية، فاشتبكوا مع مَن جاء لنجدتها فتغلَّبوا عليهم ونجَتِ القافلة…
إن شأن بدر أعظمُ، والآثار التي ترتَّبَت على هذه المعركة كانت لها نتائجُها الباهرة في كل الموازين:
1- تحطَّمَت كبرياء قريش، وظهرت حقيقة آلهتها المزيَّفة وعقائدِها الباطلة.
2- الإسلام يجبُّ ما قبله؛ لذا دخَل مِن الأسرى في الإسلام، فلم يُحاسَبوا على ما كان من ماضيهم، بل أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأَسرى.
ولكن أهل الطغيان والجبروت إذا بقوا على كفرهم، وأمكن الله منهم، فلا بد مِن محاسبتهم على جرائمهم؛ لذا عندما وقع النضر بن الحارث، وعُقبة بن أبي مُعيط في الأسر – وهُما مَن هما في إيذائهما للمسلمين عامة، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة – أمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقَتلِهما صبرًا، وهو في طريق العودة إلى المدينة المنوَّرة.
3- لقد ثبت للعالم أن المنهج الإسلامي لا يعترف برابطةٍ غير رابطة العقيدة؛ ففي بدر الْتقَى القريبُ بقريبه المشركِ فكان السيفُ الحكَمَ بينهما، وكان المبدَأُ القرآنيُّ الذي التزمَه المسلمون دائمًا: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22].
4- انخذَل اليهودُ في المدينة، وظهرَت أحقادُهم التي دفَعَتهم إلى المجاهرة بالعداء؛ فقد كذَّبوا في البداية خبر انتصار المسلمين عندما جاء زيدُ بن حارثة بالبشارة، ولفَّقوا الأكاذيب وروَّجوها، إلى أن جاء المسلمون بالأسرى مُقرَّنين فأُسقِط في أيديهم، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَني قَينُقاع إلى الإسلام؛ فهُم يَعرفونه حقَّ المعرفة، وأنه رسول الله إلى الناس كافة، قالوا له: يا محمد إنك ترى أنَّا قومك؟ لا يغُرنَّك أنك لَقيتَ قومًا لا عِلم لهم بالحرب، فأصبتَ منهم فرصة، إنا والله لئن حارَبناك لتعلمنَّ أنا نحن الناس[19].
فكانت بعدُ غزوةُ قينقاع، وتم إجلاؤهم عن المدينة.
5- أما صفُّ المنافقين فقد تزعزَع، ودخل ناسٌ منهم في الإسلام، وترَكوا اتِّباع ابن أبيِّ ابن سلول بعد أن رجحَت كفَّة المسلمين، فصارت بقية المنافقين على وجَل مِن حالهم؛ ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ [المنافقون: 4].
الخاتمة:
أيها الإخوة:
• إن بدرًا كانت البوابة التي دخَل منها المسلمون تاريخَ الانتصارات الحربية.
• ودروس بدر ستَبقى على مر الأيام تربِّي أجيالَ المسلمين؛ من قادة وجند، ودعاةٍ وشعوب، فبدرٌ مَعينٌ لا يَنضب مِن العظات والعبر.
• علينا أن نُحيي ذكرى بدر في نفوسنا كلَّ حين، وأن نُلقي من خلال عظاتها وعِبَرِها أضواءً كاشفة على واقعنا المعاصر؛ لنستلهم سُبلَ النجاة، ونتلمَّس طريق النجاح والفلاح.
اللهم ارحم الفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون.
اللهم ارحم الأنصار الذين تبوَّؤا الدار والإيمان من قبلهم، يحبُّون مَن هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
اللهم اجعلنا مِن الذين جاؤوا من بعدهم، يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبَقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] البخاري ك 64 ج 11.
[2] مجمع الزوائد 6/ 80.
[3] رواه مالك في الموطأ 422 مرسلاً، والبيهقي في الشعب 4069 نقلاً عن فقه السيرة للغضبان.
[4] السيرة النبوية لابن هشام 1/ 621.
[5] السيرة النبوية لابن هشام 2/ 612 نقلاً عن فقه السيرة النبوية للغضبان ص 272.
[6] فقه السيرة للغضبان 272.
[7] السيرة النبوية لابن هشام 1/ 615.
[8] مسند الإمام احمد 3/ 220.
[9] سيرة ابن إسحاق، نقلاً من السيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري 2/ 358.
[10] رواه البخاري ك للمغازي ج 4.
[11] البخاري ك 64 ب 9 فضل من شهد بدرًا ج 5 ص 100 نقلاً عن كتاب السيرة للغضبان 275.
[12] صحيح مسلم 3/ 1509 حديث رقم 1901.
[13] سيرة ابن هشام 1 /615 نقلاً عن فقه السيرة النبوية للغضبان.
[14] رواه البخاري ك المغازي بـ شهود بدر 11 ص 103.
[15] مسلم ك الجهاد والسير 32 بـ غزوة بدر نقلاً عن السيرة للغضبان.
[16] مجمع الزوائد 6/ 79.78 نقلاً عن فقه السيرة للغضبان 277.
[17] مجمع الزوائد 76 نقلاً فقه السيرة النبوية للغضبان.
[18] رواه أحمد في المسند.
[19] السيرة النبوية لابن هشام 2/ 47، نقلاً عن فقه السيرة النبوية للغضبان.