تعريف الغزو الفكري
شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
الرجوع إلى كتب اللغة يتبين لنا أن كلمة “الغزو” تدل على القصد والطلب والهجوم على الناس وقتالهم في عقر دارهم، وانتهابهم، وقهرهم، والتغلب عليهم ولم تكن كلمة “الغزو” تطلق في القديم إلا على الغزو العسكري من خلال الحروب والمعارك بين الجيوش في ميدان القتال..
حتى كان العصر الحديث وظهر مصطلح “الغزو الفكري” والمقصود به بشكل عام إغارة الأعداء على أمة من الأمم بأسلحة معينة، وأساليب مختلفة، لتدمير قواها الداخلية وعزائمها ومقوماتها، وانتهاب كل ما تملك، وبهذا يظهر ما بين المصطلح واللغة من صلة، حيث إن كلمة “الغزو” استعملت بمعنى الإغارة للاعتداء والنهب ولكن عن طريق الفكر وتدمير القوى المفكرة في الأمة المغزوة وما يصحب ذلك من تخريب وسيطرة[1].
أما إذا قصد به الغزو الذي قام به الغرب تجاه العالم الإسلامي في العصر الحديث فيعرف بـ”الوسائل غير العسكرية التي اتخذها العدو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط وسلوك”[2].
ولا شك أن مصطلح “الغزو الفكري” تعبير دقيق بارع، يصور خطورة الآثار الفكرية التي قد يستهين بها كثير من الناس، لأنها تمضي بينهم في صمت ونعومة، مع أنها حرب ضروس لا تضع أوزارها حتى تترك ضحاياها بين أسير وقتيل أو مسيخ، كحرب السلاح أو هي أشد فتكاً[3].
ولذلك فإن “الغزو الفكري” أخطر بكثير من “الغزو العسكري” ويتجلى ذلك فيما يلي:
أ- الغزو العسكري بغيض إلى النفوس؛ لأنه مرتبط بسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ويهدف إلى القهر والسيطرة والغلبة على الشعوب المستعمرة بالإكراه والقوة المسلحة، ومن أجل ذلك فإنه يقابل بالكراهية الشديدة، ويلقى المقاومة المستمرة والمستميتة بكل أنواع الكفاح المسلح، أما الغزو الفكري فهو موجه لتصفية العقول والأفهام لتكون تابعة للغازي، ويتسلل إليهم في صمت ونعومة، فيقبلون عليه عن طواعية ورضا وحب واقتناع، دون أن تظهر منهم مقاومة أو تمرد على الغزاة.
ب- الغزو العسكري قد يكلف كثيراً من الأنفس والأموال، وقد ينتهي أثره بعد أن تضع الحرب أوزارها، أما الغزو الفكري فإنه بالرغم من أنه قليل التكلفة إلا أن أثره أعمق وأشمل، ويمتد تأثيره إلى عشرات أو مئات السنين في كثير من الأحيان، حيث يتميز بالشمول والامتداد، فهو حرب دائمة دائبة، لا يحصرها ميدان، بل تمتد إلى شعوب الحياة الإنسانية جميعاً، وتسبق حروب السلاح وتواكبها، ثم تستمر بعهدها لتكسب ما عجز السلاح عن تحقيقه، فتشل إرادة المهزوم وعزيمته حتى يلين ويستكين، أو تنقض تماسكه النفسي حتى يذوب كيانه، فيقبل التلاشي والفناء في بوتقة أعدائه، أو يصبح امتداداً ذليلاً لهم، بل ربما تبلغ حداً من الإتقان يصل بها إلى أغوار النفس، فتقلب معاييرها ومفاهيمها، وتشكل لها أنماطاً جديدة في السلوك والأخلاق والأذواق إلى الدرجة التي تجعل المهزوم يفخر فيها بتبعيته، ويراها شرفاً خليقاً بالرضا والشكران.
ج- يتميز الغزو الفكري بالخداع والتمويه والتخدير، فإذا كان العدو في الغزو العسكري يعتمد على المواجهة في الميدان، وتكشف أسلحته عن نفسها سواء كانت بالسيوف أو القنابل، فإن العدو في الغزو الفكري يأتيك متخفياً من وراء حجاب، ويداهمك بدون شعور منك، فقد يأتيك في صورة مقال جذاب أو كتاب بغلاف براق أو برنامج إذاعي أو تلفزيوني أو فيلم أو مسلسل أو مسرحية.
حيث يستخدم الغزاة أسلحة تعتمد على الفكرة والكلمة والرأي والحيلة، والنظريات والشبهات وخلابة المنطق وبراعة العرض، وشدة الجدل، ولدادة الخصومة، وتحريف الكلم عن مواضعه، وغير ذلك مما يقوم مقام السيف والصاروخ في أيدي الجنود، والفارق بينهما هو نفس الفارق بين وسائل وأساليب الغزو الفكري قديماً وحديثاً[4].
[1] راجع مواجهة الغزو الفكري ضرورة إسلامية للدكتور أحمد عبدالرحيم السايح، ص9-10، مركز الكتاب للنشر – مصر.
[2] واقعنا المعاصر، للأستاذ محمد قطب، ص182، دار الشروق، ط1، 1418هـ-1997م.
[3] راجع الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام للدكتور عبدالستار سعيد، ص6، دار الأنصار – القاهرة.
[4] راجع الغزو الفكري والتيارات المعادية، ص7-8، واحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام للدكتور سعد الدين صالح، ص42-43، مكتبة الصحابة الشارقة، ط7، 1420هـ-2000م، ومواجهة الغزو الفكري، ص9.