العولمة والسنن الاجتماعية
شارك في التأليف: الأستاذ الدكتور فتحي محمد الزغبي.
وقبل ذكر الخطوات التي ينبغي اتخاذها تجاه أخطار العولمة وسلبياتها، نقدم التمهيد في بيان سنن الله الاجتماعية التي لا تتخلف، كما أن سننه الطبيعية لا تتخلف إننا نجد دعوة العولمة تتصادم مع أربع سنن من سنن الله الاجتماعية وكل سنة منها كفيلة بدمار ما يعارضها أو يجابهها.
أولاً: سنة التدافع:
لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى منذ أن هبط آدم عليه السلام إلى هذه الأرض أن يكون الصراع بين قوى الخير وقوى الشر، وأن لا يمكن واحدة منها في التحكم في مصير العالم.
يقول عز من قائل: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123-124]، ومنذ ذلك الحين تتدافع قوى الخير والشر، فكلما انحرف الناس عن هدي الله المتمثل في الرسالات إلى اتباع الشهوات والأهواء وطغوا وتجبروا في الأرض تنبت لهم نابتة تعمل على إعادتهم إلى فطرة الله التي فطر عليها الناس، وذكرتهم بأيام الله وحذرتهم من المصير المظلم، فإن أبوا تعرضوا لجند الله فدمرتهم، وذلك من السنن الإلهية الكونية.
ولا تتحقق حكمة الله – سبحانه وتعالى – في خلق مخلوقاته من الابتلاء والاستخلاف في الأرض إلا باستمرار هذه السنة ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251].
لقد مر على تاريخ البشرية من القوى المؤمنة التي أقامت حضارات ربانية حكمت بالعدل وأقامت منارات التوحيد كما حدث في عهد داود وسليمان عليهما السلام وما حققه ذو القرنين في مشارق الأرض ومغاربها، ومع ذلك لم تتفرد بحكم الأرض بمفردها لتعمل ما تشاء، بل وجد من يعاديها ويحاربها.
وكذلك استبدت قوى طاغية في الأرض، وفرضت هيمنتها على أجزاء كثيرة من الأرض، كما فعل نمرود وفرعون وعاد وثمود، ولكن قوى الخير قاومتهم وقضت مضاجعهم إلى أن زالت من الوجود.
واليوم تسعى دول الغرب مجتمعة إلى بسط نفوذها وهيمنتها على العالم لتفرض نموذجها في الثقافة والسياسة والاقتصاد والاجتماع على العالم، ونقول إنها لن تتمكن من ذلك وفق سنة الله التي قد خلت ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ثانياً: سنة الله في الطغيان والتكبر والجبروت:
لقد مر في تاريخ البشرية من طغى وتجبر بما لديه من المال ووسائل الرفاه والقوة العسكرية وغفل عن الخالق الذي خلقه وأمده بالمال والنفر ويسر له سبل الغلبة والقوة، ولم يدرك عاقبة طغيانه وجبروته، فأنزل الله به عقوبته التي لا ترد ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 43-45].
لقد وصل الطغيان العلمي بهذه الدول إلى تكذيب الدعوات الربانية، والكفر باليوم الآخر والاستهزاء بمن يذكرهم بيوم الحساب، وأحلوا علومهم المادية وفلسفتهم الوضعية محل الوحي المنزل من خالق السماوات والأرض، وظنوا – وخاب ظنهم – أن هذه العلوم ستوفر لهم السعادة التي ينشدونها، وقال قائلهم: إن إلهنا هو العلم وإن معابدنا هي المختبرات.
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، يبين الله سبحانه وتعالى سنته في هؤلاء وأمثالهم ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 82-85].
إن القوة العسكرية المدمرة التي تمتلكها بعض الدول حملتها على الاعتقاد أنها قادرة على فعل ما تشاء بمن تشاء في الوقت الذي تشاء، وغفلت في حال زهوها وجبروتها عن الله الذي خلقها ومكنها وأنه أقوى منها: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 15-16].
ثالثاً: سنة الله في المترفين المفسدين:
إننا نشاهد في دعوة العولمة اليوم ذاك الفساد الخلقي والانحطاط السلوكي وتلك المتاجرة بإثارة الغرائز الهابطة، التي تحمل جديدها كل يوم وسائل الإعلام إنه التقنين المنظم للفاحشة، التي تروج لها كبريات الشركات في الدول الكبرى. وتتخذ من المؤسسات الدولية وسيلة لنشرها وغطاء لغاياتها، وهل يتصور درك من الانحطاط أن تتخذ قوانين تجرم الزواج المبكر، وتبيح الزنا المبكر. وتمنع تعدد الزوجات وتشجع اتخاذ الخليلات..
إن سنة الله التدميرية لمثل هذه المجتمعات بالمرصاد، يقول عز من قائل: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 16-17].
رابعاً: سنة الله في الظالمين:
إن أصحاب المصانع والشركات التي تسيطر على اقتصاد العالم، وتسرح بين الفينة والأخرى عشرات الألوف من العمال والموظفين، وتبتلع الشركات والمصانع الأصغر والأقل إمكانات، وتوصد أسباب الرزق وأبوابه في وجوه الملايين من العوائل، هؤلاء يتعاملون مع البشر من غير مراعاة لمشاعر البشر وعواطفهم واحتجاجاتهم، إنهم يتعاملون معهم كما تتعامل آلات مصانعهم الصماء التي لا تملك أحاسيس ومشاعر، ولا تحس بمشاعر الآخرين.
إن هؤلاء يتعرضون لدعوات المظلومين في مشارق الأرض ومغاربها التي يقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب”[1] والتي تكفل الله سبحانه وتعالى بنصرها ولو بعد حين.
إن دولة الكفر مع العدل تستمر، ولكن دولة الظلم لا تستمر ولو كانت هذه الدولة لأهل الإيمان. فكيف إذا اجتمع الكفر مع الظلم للعباد والبلاد؟
[1] متفق عليه، رواه البخاري (1425)، 2 /544، وصحيح مسلم رقم (19)، 1 /50.