الحج : تاريخ وتشريع وآمال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الحديث عن الحج يتكرَّر موسمه، ولا يمل الحديث عنه – على الرغم من كثرته – لأهميته؛ فهو الركن الخامس من الأركان التي بُني عليها الإسلام.
والحاجة إلى الحديث عنه ماسَّة؛ لأن أجيالاً لم تكن بالغة فتُكلَّف بأداء الركن بعد البلوغ، وفئات من الناس لم تكن قادرة – لم تستطع إليه سبيلاً – فتجد إليه سبيلاً، فتملِك الزاد والراحلة، وشرائح اجتماعية كانت تائهة غافلة فتتلمس طريق الهداية وتبدأ رحلة الرجوع والإنابة من بيت الله الحرام، وغيرها كثير من الأسباب الداعية إلى الحديث عن الحج.
♦ ولكنَّ حديثي عن الحج لن يكون عن أهميته، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام كما تقدم.
♦ ولن يكون حديثي عن وجوب المبادرة إلى أدائه كما نص الرسول الكريم عليه بقوله: ((بادروا بالحج والعمرة؛ فإن الراحلة قد تضل، والنفقة قد تذهب، والرجل قد يمرض)).
♦ ولن يكون حديثي عن التحذير من تأخيره والتقاعس في أدائه، كما ورد ذلك في قول علي رضي الله عنه: “من قدر على الحج فلم يحج، فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا”.
♦ كما لن أتحدث عن الثواب العظيم لمن أدى الحج على الوجه المطلوب، كما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدتْه أمُّه))؛ متفق عليه، وقوله: ((… والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
♦ أما الحديث عن أحكام الحج وأنواع النُّسك، أركانًا وواجباتٍ وآدابًا، فسأترُكه إلى آخر المحاضرة لأسئلتكم إن استفسرتم عنها.
ولكم الحق أن تقولوا: إذًا فعن أي شيء تُحدِّثنا في الحج؟!
أريد أن أحدثكم في هذه الأمسية الطيبة عن أمور ثلاثة: عن التاريخ، وعن فلسفة التشريع وحكمته، عن الآلام والآمال في الحج.
أما التاريخ:
فتعالوا معي إلى بيت آل إبراهيم أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعًا، سارة زوج إبراهيم عجوز عقيم لا تلد، مَلِك مصر يهَب جاريته لسارة اسمها هاجر، فتُشفق سارة على زوجها وابن عمها ألا يُنجب فتهَبُ جاريتَها له؛ لعل الله يرزقه منها ولدًا، وتَحمِل هاجر، وتخشى من غيرة سيدتها سارة – بحسِّ النساء الضرائر – فتُحاول إخفاء حَملها عنها بلبس (المِنطَق) الحزام؛ ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس: “أول ما اتخذ النساء المِنطَق من قِبَلِ أم إسماعيل عليها السلام، اتخذت منطقًا ليُغفِّيَ أثرها على سارة”، ولكن الإخفاء لم يَطُل زمنه، فولدت هاجر إسماعيل وانكشف الأمر، ولم تُطق السيدة أن ترى جاريتها قد أصبحت أمًّا تُرضِع وليدها أمام عينيها، وأن ترى زوجها وابن عمها ينظر بعين الأبوة الحانية إلى هذا الرضيع.
وإذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه، أراد الله أن يكون لهذا المولود ووالدَيه شأن في تاريخ البشرية.
تنفَّست سارة الصُّعَداء عندما علمت أن إبراهيم عليه السلام سيُبعد (هاجر) ورضيعها عن ناظرَيها إلى مكان بعيد عن مدينتهم (الخليل)، بل ومن بلاد الشام قاطبةً.
جاء إبراهيم بهما إلى جبال سوداء قاحلة لا شجر ولا ماء ولا ناس، فوضعهما تحت دوحة شجرة فريدة في الوادي، ووضع عندهما جرابًا (كيسًا) فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، وهو كل ما يملك أو يستطيع أن يقدم لهما من وسائل المعيشة وأسبابها، ثم قفى راجعًا منطلقًا (مسرعًا)، شيء لا يكاد يتصوره عقل!
امرأة لا حول لها ولا قوة مع رضيعها في أرض قاحلة، لا أنيس ولا جار ولا حامي من البشر لها، كيف يتم هذا؟!
فتبعتْه أم إسماعيل: يا إبراهيم، أين تذهب وتَتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! وهو ساكت لا يرد عليها، ومُنطلِق في سيره لا يلوي على شيء، فقالت له ذلك مرارًا، وهي تلهث خلفه، وهو لا يلتفت إليها.
ثم قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
فكان الجواب (بنعم) بَرْدًا وطمأنينة وسكونًا وقرارًا لقلبها الولهان، إنها مؤمنة بربها، مصدقة لنبيها، وأدركت أن في هذا التصرُّف حكمةً عظيمة، فقالت: إذًا لا يُضيعنا، إنها تربَّت في بيت النبوة، إنها من آل إبراهيم (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك…)، ثم رجعت إلى وليدها لتَعتني به، وانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنيَّة حيث لا يرونه، استقبل بوجهه مكان البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه، قال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)).
وهل هناك ابتلاء أشد من ابتلاء المرء في أهل بيته – زوجه وولده – ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ [البقرة: 124]، لقد ابتُلي إبراهيم في نفسه أولاً حينما أراد به نمرود وقومه كيدًا، عندما ﴿ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴾ [الصافات: 97، 98].
فعندما ألقوه مقيدًا مكتوفًا من فوق البناء المرتفع إلى قلب وادٍ يضطرم نارًا، تعرض له جبريل: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال فسل ربك، قال: عِلمه بحالي، يغني عن سؤالي.
فكانت الاستجابة الربانية في أسرع من لمح البصر: ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، لقد امتُحن فنجح في الامتحان، فأُعطي المكافأة الفورية.
♦ وفي هذا الامتحان امرأة ضعيفة، هو راعيها المتكفِّل بها، ورضيعها قطعة منه فلذة كبده، يتركهما في هذه الفلاة.
إن صاحب المروءة من البشر يتحمل الحرمان والعذاب، ويُعرِّض نفسه للهلاك والمخاطر؛ للحفاظ على عرضه وأهل بيته.
أيها الإخوة، وطأة الحدث خفيفة على نفوسنا ومشاعرنا؛ لأننا نعرف النتيجة التي آل إليها أمرهما، ولكن مَن لم يعايش الحدث لأول مرة، ولا يعلم ما يخفيه المستقبل، ولا يدرك عاقبة الأمر، إنه أمر لا يتصوَّر العقلُ هَوْلَه وشدته على النفس.
♦ وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل عليهما السلام، وتشرب من ذلك الماء، حتى نفد ماء السقاء، وبعد؟
♦ عطشت… وعطش ابنها… جفَّ ضرعها!
جعل الرضيع يتلوى من العطش والجوع، الأم تنظر إلى وليدها يتلبط!
وهل تطيق أمٌّ أن تصمد أمام هذا المشهد؟!
ولكن لتبحث ولا تجلس عاجزة بدون حَراك، انطلقت كراهيةَ أن تنظر إلى وليدها وهو يصارع الموت؛ هربًا من المشهد، ولعلها تجد مغيثًا يمد لها يد المساعدة.
وجدت الصفا – جبل صغير – أقرب جبل في الأرض إليها، فقامت عليه ونظرت إلى الوادي هل ترى أحدًا؟ لم ترَ أحدًا، هبطت من الصفا حتى إذا بلغَت بطن الوادي رفعت طَرَف درعها؛ لكيلا تتعثَّر فيه، وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة – جبل صغير في الطرف الآخر من الوادي – فقامت عليه، ونظرت هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، نزلت من الجبل وجاءت إلى الطفل: هل به رمق أو أنه قَضَى؟ لا زال الرضيع يتلبط، لم تُطق النظر إليه، صعدت إلى الصفا ثانية وإلى المروة أخرى، فعلتْ ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فلذلك سعى الناس بينهما))، صلوات الله وسلامه عليكم آل بيت إبراهيم؛ لقد كانت سيرتكم نبراسًا للأمم؛ ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ… ﴾ [الممتحنة: 4].
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
ولنعد إلى سياق القصة كما يرويها الإمام البخاري، فلما أشرفت على المروة – أي: في المرة السابعة – سمعت صوتًا، فقالت: صهٍ – تُريد نفسها – ثم تسمَّعت فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غَواث… ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: 62]؟
نعم، جاء الغَواث؛ لقد بحث المَلَك بجناحه عند قدم الرضيع، فانبجس الماء، حوَّضتْه وغرفت منه، فنبع بعد غرفها وفَارَ، وجعلت تغرف وتضع في السقاء وهو يفور كلما غرفت، وتوسع الحوض وتقول: زم زم؛ خشية النضوب، ((يرحم الله أم إسماعيل – يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم – لو تركت زمزم – أو قال: لو لم تغرف من الماء – لكانت زمزم عينًا مَعِينًا))؛ أي: نبعًا جاريًا لا يحتاج إلى الدلاء والسقاء.
شربتْ وأرضعت ولدها، فقال لها الملَك – صاحب الصوت -: لا تخافي الضيعة؛ فإن ها هنا بيتًا لله – عز وجل – يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله – عز وجل – لا يُضِيع أهله، لقد سَكَن روعُها، واطمأنَّ قلبها، وذهب الخوف من المستقبل المجهول، وسيعمر هذا المكان وسيعود الزوج الحبيب، ليَبني مع إسماعيل بيت الله، وتكفل الله برزق هذه البلدة الطيبة؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 126]، وكفالة الرزق، ورغد الحياة، والأمن النفسي، والاستقرار، والطمأنينة – متوفرة لأهل مكة منذ سكناها، سواء المؤمن والكافر في ذلك، إلى أن فتحت مكة وصارت دار إسلام ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 – 4].
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 67].
♦ كان مكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية – التلَّة الرملية الصغيرة – تأتيها السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكانت أم إسماعيل مستأنسة بولدها تشرَب من الماء المُبارَك، فهو طعام طُعم وشفاء سُقم، وقد ورَد عن بعض الصحابة عندما جاء للتعرُّف على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم – هو أبو ذرٍّ الغفاري – وهو غريب عن مكة ويَخاف إن سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُضطهد – وكانت الدعوة في طور الخفاء والسرية – يقول: بقيتُ شهرًا وليس لي طعام ولا شَراب إلا ماء زمزم، فوالله لقد سمنتُ حتى صار لبطني عكن؛ أي: نتوءات من الشحم.
♦ بقيتْ على ذلك فترة ثم مرَّت بتلك المنطقة رفقةٌ من جُرْهم – أو أهل بيت من جرهم – مقبلين من طريق كَدَاء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًّا أو جريَّين – رائدًا يَسِتكشف لهم الخبر – فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذَنين لنا أن ننزل عندك؟
إنها أخلاق الفطرة: المروءة، والشهامة، رعاية الضعيف، الاعتناء بالصغير، والعطف على ذي الحاجة! أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟
لم يلجؤوا إلى قوتهم وهم الرجال الأشداء للفتك بها، وانتزاع المكان والمرتفق منها، وكانت أم إسماعيل بحاجة إلى مَن يُؤانسها، ولكنها كانت خائفةً أن يُفلت الأمر من يدها إن هي لم تأخذ العهد والميثاق منهم.
قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى كانت بها أهل أبيات منهم – يعني شكَّلوا قرية صغيرة أو مضرب بادية.
شبَّ الغلام، وتعلم العربية من قبيلة جُرهم، وأعجبت القبيلة بأخلاقه وسمتِه، فلما أدرك زوَّجوه امرأةً منهم، وماتت أم إسماعيل عليهما السلام.
♦ فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ليُطالع تركته، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا – ذهب ليكسب قوت عياله بالعمل بالصيد – ثم سألها إبراهيم عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدة، وشَكَتْ إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يُغيِّر عتبة بابه.
إن بعض النفوس ليس فيها القابلية للارتقاء في سلم الكمالات النفسية، ولا تصير على الطاعة، ولا ترى إلا موطئ قدميها، ولا أبعد من أرنبة أنفها، ولا تدرك أن الصبر مفتاح الفرج، وأن مع العسر يسرًا، وأن آل بيت إبراهيم لن يضيعوا، ولكن الله لم يكن قد كتب لها هذه المكانة والمرتبة.
فلما جاء إسماعيل عليه السلام كأنه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسأل عنك، فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا في جَهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم؛ أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيِّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك، فطلَّقها.
وتزوج بأخرى من جرهم أيضًا، فلبث عنهم إبراهيم عليه السلام ما شاء الله، ثم أتاهم فلم يجد إسماعيل للمرة الثانية – هكذا قدَّر الله – فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: نحن بخير وسَعة، وأثنت على الله – عز وجل – فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولم يكن لهم يومئذٍ حَبٌّ، ولو كان لهم لدعا لهم فيه، فلا يخلو منهما بيت في مكة))، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُريه يثبِّت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل عليه السلام: قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم؛ أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم؛ هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله – عز وجل – ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبري نبلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنَعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك – عز وجل – قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا؟ وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفَعا القواعد من البيت؛ ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 127 – 129]، وتقبل الله دعاءهما واكتمل البناء.
وصدر الأمر الإلهي إليهما: ﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125]، فقاما بتطهيره ماديًّا ومعنويًّا؛ بإبعاد القاذورات الحسية عنه، وإبعاد الشرك والوثنيات عن رحابه، فكان كما قال عنه رب العالمين: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96].
♦ وصدر الأمر الإلهي إلى إبراهيم: يا إبراهيم، نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه.
قال: يا رب، وكيف أبلِّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ قال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على أبي قبيس وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحُجُّوه، فأجابه كل شيء في أرجاء الأرض: “لبيك اللهم لبيك”؛ ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].
ولا زالت وفود الملبِّين تتجاوب مع نداء أبي الأنبياء: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.
يأتون من السهول والجبال، من الوديان والوهاد، من الجزر والأقاليم، من كل فجاج الأرض، على الخيول والنياق المضمرة، وعلى السفن والبواخر التي تمخر عباب البحار والمحيطات، وعلى الطائرات عابرات القارات.
ولكن: هل تم الأمر وانتهى الابتلاء والاختبار؟!
لا، لم ينتِه الأمر؛ لقد رأى إبراهيم رؤيا – ورؤيا الأنبياء حق وصدق؛ فإنها من الوحي المصون المعصوم من تلبُّس الشياطين – رأى في المنام أنه يؤمر بذبح ولده إسماعيل.
لقد أصبح الفتى ملء السمع والبصر، وقد كان عونًا لأبيه في بناء البيت وبلغ معه السعي وحضر المناسك.
إنه الابتلاء العظيم، إنه ابتلاء الخليل لخليله؛ حتى لا يُخالل شغافَ قلبه سوى حب الخليل، ولم يُرِد إبراهيم عليه السلام أن يُفاجئ إسماعيل بالتنفيذ مباشرةً، وإنما أطلعه على الأمر؛ ليكون عونًا له في التنفيذ، كما كان عونًا له في رفع قواعد البيت وتطهيره.
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].
نعم، إنه الابن الحليم الذي بُشِّر به ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 101].
وخرج به إلى جهة مِنى لينفِّذ فيه أمر الله، وأسلَمَا أمرهما لله رب العالمين، قال له إسماعيل: يا أبت، إنك إن ألقيتني على ظهري وذبحتني، أخاف أن تأخذك الشفقة وأنت تنظر في وجهي فلا تستطيع إنفاذ أمر ربك، ولكن ألقِني على جبهتي واذبحني من القفا.
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات: 103 – 107].
فالتفت إبراهيم، فإذا بكبش أبيضَ أقرن أعين.
يقول ابن عباس: لقد رأيتُنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش.
فهل أدركتم – أيها الإخوة – جانبًا من سر قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا… ﴾ [البقرة: 124].
كيف كان إتمام إبراهيم للكلمات؟ كيف كان نجاحه في الامتحان؟
ولماذا استحقَّ إمامة الناس؟
وهل عرفنا كيف كان إبراهيم عليه السلام (أُمَّة)؛ أي: جامعًا لخصال الخير والكمالات ما لو وزِّع على أمَّة من الناس لوسعهم؟! ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120].
أما التشريع في الحج، فتبرز معالم:
أولها: معالم التوحيد:
فأصل بناء البيت ليكون رمزًا للتوحيد:
♦ ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26].
♦ وإبراهيم عليه السلام كان رمزًا للموحدين؛ يقول – عز من قائل -: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67].
♦ والناس الذين لبوا نداء إبراهيم يرددون شعائر التوحيد: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.
ثانيًا: العبودية الحقة لله تعالى والخضوع لأحكام شرعه:
في كثير من شرائع الإسلام تبرز حكمة التشريع، تُدركها العقول حتى في العبادات التي تؤدَّى من غير بحث عن الحكمة أو العلة.
♦ ففي الصلاة الجانب التربوي على مستوى الفرد: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وعلى مستوى الجماعة: يبرز جانب التآلف والمحبة، والتآزر والثقة والطمأنينة بين أهل الحي في المسجد الواحد.
♦ وفي الزكاة: على مستوى الفرد: القضاء على الشح والبخل، ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103].
♦ وعلى مستوى الجماعة: تلعب الزكاة دورًا كبيرًا في سد حاجة المحتاجين، وتؤدي دورًا كبيرًا في سد حاجة المحتاجين، وتؤدي دورًا في التكافل.
♦ وفي الصوم: تربية النفس على الصبر والعزيمة ومراقبة الله تعالى.
وعلى مستوى الجماعة: ذاك الشعور السامي بروابط الأخوة بين المسلمين؛ إفطارهم واحد، وإمساكهم واحد.
♦ أما الحج، فأغلب أحكامه تعبدية لا يبحث لها عن علة أو حكم، بل اتباعٌ مُطلَق، وتسليم تام، واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: ((خذوا عني مناسككم))؛ رواه مسلم، فالتجريد من الملابس، والطواف، والسعي، وتقبيل الحجر واستلامه، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والرمي… إلخ.
ثالثًا: التخلي عن الأهواء والشهوات:
♦ لما كانت الملابس مظهرًا من مظاهر التكبر والافتخار وإبراز المكانة، أُمرنا بالتخلي عنها ولبس الإحرام، ولا مجال كبير للتفاوت بينها.
♦ ولما كانت الشهوات تثور في فحش الكلام وميوعته بحضرة النساء، نُهينا عن الرفث والفسوق.
♦ ولما كانت شهوة العلوِّ والانتصار للذَّات وفرض الرأي بالجدل نُهينا عنه ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197].
♦ وقل مثل ذلك في التخلي عن الطِّيب وقصِّ الشعر وتقليم الظفر، فكلها مظاهر للتنعُّم وتحقيق الملذات في المظهر.
♦ وكذلك النهي عن الصيد، فكثيرًا ما يكون للعبث والترويح عن النفس واللهو.
رابعًا: تنمية روح المساواة:
♦ في اللباس الموحد.
♦ والمكان الموحد.
♦ والشعائر الواحدة.
♦ والمشاعر الواحدة.
♦ والعمل الموحد.
خامسًا: التعود على الانضباط في السلوك:
♦ فلا سعي قبل الطواف.
♦ ولا رمي قبل الوقوف بعرفة.
♦ ولا نحر قبل العيد.
♦ ولا إفاضة من عرفة قبل المغيب.
سادسًا: مؤتمر سنوي عالمي:
♦ لئن كانت بعض الدول تدعو إلى مؤتمر كل خمس سنوات أو ثلاث، فتلبي دعوتها الدول الدائرة في فلكها، أو صاحبة المصلحة والمنفعة لدعوتها، فإن هذا المؤتمر السنوي على مستوى الأفراد في العالم الإسلامي لا نظير له، لقد عرف الأعداء خطورة هذا المؤتمر، وجهل معظم المسلمين قيمته.
يقول أحد المنصِّرين: لا قرار للنصرانية في بلاد المسلمين ما دام بينهم: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، واجتماع الحج السنوي.
سابعًا: التذكير باليوم الآخر:
♦ مفارقة الأهل والأوطان في السفر: كالموت الذي يودع فيه الدنيا.
♦ ولبس الإحرام: يشعر بالكفن الذي يأخذه الميت.
♦ زحمة الطواف والسعي والرمي: كيوم البعث عندما يُبعَث الناس من قبورهم كالفَراش المبثوث.
♦ توجه الناس في الطريق إلى عرفة: كحشر الناس إلى أرض المحشر ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ [مريم: 85، 86].
♦ والوقوف بعرفة: كيوم الوقوف بين يدي رب العالمين للحساب.