للأستاذ الدكتور مصطفى مسلم
مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب: (معالم قرآنية في الصراع مع اليهود)
الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعدُ:
فقد مضى على الطبعة الأولى لكتاب “معالم قرآنية في الصراع مع اليهود” بضع عشرة سنة، تحدَّثت في مقدمتها عن علوِّ اليهود وإفسادهم في الأرض للمرة الثانية، وعن إخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقتال المسلمين لليهود قبل قيام الساعة، تساءَلت: إن طرف المعادلة الأول: (عُلوُّ اليهود وإفسادهم) ظاهر للعيان، ومستمر في الصعود، ولكن أين الطرف الثاني للمعادلة: (يا مسلم، يا عبدالله.. )؟!
وتفاءَلت بالصحوة الإسلامية، وقلت: “والأصوات ترتقع من أنحاء العالم الإسلامي مُستنكرة مُحتجة – على سكوت العالم الإسلامي على مخططات اليهود في التوسُّع، وإجبار حُكام المسلمين على توقيع صكوك الاستسلام لليهود، وإقرارهم على أرض فلسطين، وتطبيع العلاقات معهم، وقَبولهم كإحدى دول المنطقة – ولكن هذه الأصوات تَخفِت، ولا تسطيع للآن أن تشكِّل هديرًا مدوِّيًا يُصِم آذان المتآمرين، ولا تستطيع أن تُحيل الدويَّ إلى زلزالٍ يهزُّ الأرض تحت أقدام المأجورين”[1].
واليوم رأينا الهدير المُدوي قد تحوَّل إلى زلزالٍ هزَّ عروش بعض الطُّغاة المتجبِّرين، فتهاوَت بعض عروش رموز الحكم الجبري في العالم الإسلامي[2].
وبدأت تَباشير العودة إلى الحكم الراشد على منهاج النبوة، تَلوح في الأُفق؛ كما أخبر بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم[3].
إن الصراع بين فلول الحكم الجبري وطلائع الفئة المؤمنة في بداياته، وسيكون على أشده في بلاد الشام، وذلك ابتلاء وتمحيصٌ واصطفاءٌ لأهل الشام؛ لأنها حاضرة دولة الإسلام المُرتقبة وفسطاطها، ومنطلق كتائب التوحيد.
إن المُجابهةمع مَن ربَّاهم المستعمر على عينه، أشد ضراوة من تلك التي مع المستعمر نفسه؛ لأن هؤلاء يحملون أسماءً إسلامية، ويَنتمون إلى أُمة الإسلام، وإلى أُسرٍ مسلمة وآباءٍ مسلمين، ولكنَّ قلوبهم تَحمل الغِلَّ والحقد على الإسلام وأهله.
فلِزامٌ على قادة الصحوة الإسلامية، ومَن انتخَبهم المسلمون لقيادة الأمة في هذه المرحلة، أن يكونوا على حذرٍ شديد في التعامل مع الأحداث، وأن يكونوا على وعي وحزمٍ وعزمٍ في مواقفهم، واتِّخاذ قراراتهم.
وهذه لَفتاتٌ أُذكِّر بها وأُنبِّه عليها؛ لتأخذ حيِّزًا من اهتمام قادة العمل الإسلامي والصحوة المبارَكة:
أولاً: عدم الانشغال بمقترحات الفلول والمُنهزمين المتخاذلين:
– دين رئيس الدولة الإسلام.
– دين الدولة الإسلام.
– الإسلام أحد مصادر التشريع في الدولة.
– الإسلام المصدر الرئيس للتشريع.
– مرجعية الدولة الإسلام.
فقد تجاوَزت الصحوة المباركة وشباب الثورة هذه المصطلحات.
ثانيًا: عدم الركون إلى الحلول الغربية أو الشرقية التوافُقية بشأْن المُفسدين في الأرض من السفَّاكين القَتلة، مصاصي أقوات الشعب، المُغتصبين لمقدَّرات الأمة وثرواتها، بل تقديمهم إلى العدل الربَّاني، ومحاكمتهم وَفْق شريعة الله.
ثالثًا: إعادة النظر في المعاهدات الدوليَّة وَفْق شرْع الله، ومصلحة دولة الإسلام، ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُسوة حسنة، فبعد أن أقرَّ بنود (صُلح الحديبية) مع مُشركي مكة، وكان من ضمنها: “مَن جاء إلى المسلمين من قريش مسلمًا، أعاده إلى قريش..”.
وكان نصًّا عامًّا يَشمل المؤمنين والمؤمنات، فنزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ﴾ [الممتحنة: 10].
كان ذلك حفاظًا على مصلحة الأمة في حِفظ عقائد المؤمنات، وعدم تعرُّضهنَّ للفتنة في عقيدتهنَّ، علمًا بأن آيات القرآن الكريم قبل الحادثة وبعدها تنصُّ على الوفاء بالعهود والحفاظ على المواثيق والوعود؛ كما في قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾ [التوبة: 4]
وقوله تعالى: ﴿ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾[الأنفال: 72].
ولكن شرائعَ الإسلام لا تَظلم أحدًا، فلا ضرَر ولا ضِرار؛ ولذا أمر الله – سبحانه وتعالى – في حالة الاحتفاظ بالمؤمنات وحمايتهنَّ من التعرُّض للفتنة، بإعادة ما أنفَق المُشرك على زوجته المُفارقة إلى دار الإسلام؛ فقال – عز من قائل -:﴿ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا… ﴾ [الممتحنة: 10].
لقد لحِق بالمسلمين إجحافٌ كثير في أرضهم وممتلكاتهم ومُقدَّساتهم، باسم قوانين الأمم المتحدة، ومؤسَّساتها التي تُهيمن على مُقرراتها الدولُ ذات النفوذ والجبروت والطغيان.
رابعًا: الحذَر من المتظاهرين بالتوبة: إن الإسلام فتَح باب التوبة لكل المُناوئين المخالفين، ووعَد بالمغفرة؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116].
ويقول -عز وجل-: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾
[الزمر: 53].
ولكن للتوبة والتائبين شروطٌ عامة وخاصة:
أما الشروط العامة:
1- الإقلاع عن الذنب.
2- الندم على ما فات.
3- العزْم على عدم العودة إلى الذنب في المستقبل.
وإذا كان الذنب يتعلَّق بحق العباد، يُزاد شرط رابع، وهو إعادة الحق إلى أصحابه، أو التسامُح منهم.
هذا إذا كان المذنب من عامة الناس، أما إذا كان من قادة القوم ومُنظِّريهم، ومن أهل الحَلِّ والعقْد والقرار، وأراد الإقلاع عن توجُّهه السابق والعودة إلى صفوف المسلمين والالتزام بجماعتهم – فلا بدَّ من شروط أخرى تُضاف إلى الشروط السابقة، نصَّ عليها قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159 – 160].
فلا بدَّ من التوبة بشروطها السابقة، ولا بد من التحقُّق من صلاحهم، بوضْعهم تحت المراقبة فترة كافية للتأكُّد من أن توبتهم ليستْ من باب الخداع، أو تَطلُّعًا إلى منصب أو مصلحة دنيوية في المرحلة اللاحقة، ولا بد من التأكد من إصلاحهم ما أفسدوه من مصالح المسلمين، أو السعي الحثيث لهذا الإصلاح.
والأمر الثالث وهو الأهم: (وبيَّنوا)، بيان خُططهم التي كانوا يعملون على تنفيذها للإضرار بمصالح الأمة؛ سواء التي تمكَّنوا من تنفيذها، أو التي كانوا بصدد تنفيذها، أو بعبارة المعاصرين: (بيان المؤامرات التي كانوا يعملون على تنفيذها للإضرار بمصالح الأمة؛ سواء بمفردهم، أو بالتمالُؤ مع أعداء المسلمين).
خامسًا: ليكن ميزانكم في تقييم الأفراد والهيئات والعلاقات العامة والخاصة، كتابَ الله وسُنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وشريعة الإسلام وهَدْيه؛ ففي ذلك مصلحة الأمة وصلاح المسلمين وفلاحهم، وقد وعَد الله – سبحانه وتعالى، ووعْده الحق – مَن التزَم هدايات دينه وشرائعه، بسَعة الرزق، ورغَدِ العيش، والتمكين في الأرض، والسعادة في الدنيا قبل الآخرة؛ يقول – عز من قائل -: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].
هذا وعْد الله، ومَن أصدقُ من الله قيلاً؟!
أما المروِّجون للإفساد والانحراف باسم تأمين العُملات الصعبة، عن طريق جذْب السُّيَّاح بتقديم الخِدمات من الخمور، وتحقيق رغباتهم وشهواتهم بتيسير العُري على الشواطئ والمُنتزهات، والنوادي الليلية، أو الدعوة إلى التحلُّل الخُلقي والانحراف السلوكي، باسم الفن والحفاظ على الحرية الشخصية، وحرية الرأي، أو رفْع شعارات الحفاظ على مكتسبات المرأة، من خلال تَعَرِّيها وعرْض مفاتنها؛ لإثارة الفتنة والشهوات، والمتاجرة بالأعراض – فكل ذلك ضلالٌ وانحراف عن مقتضيات الفطرة السليمة، وعن هدْي الشرع الحنيف، فلا بدَّ من التعامل معه بالوعي والحكمة والحزْم.
والأمل معقود بعد الله – جل وعلا – على شباب الأُمة ومُفكِّريها وعلمائها، أن يكونوا على مستوى المسؤولية في الأخْذ بدَفَّة السفينة، وقيادتها إلى برِّ الأمان؛ ليحقِّقوا وعد الله – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
إن سُنة الله ماضية في عباده، وإن وعْد الله متحقِّق لا يتخلَّف، والله غالب أمره، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون