موقع أ.د مصطفى مسلم
الموقع الرسمي لفضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم

محاسن الأخلاق

يتخذ شيخ الإسلام من العبادات الدعامة الأساسية لمحاسن الأخلاق ومكارمها: ففي دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يجمع ابن تيمية في باب المعروف أعمال العبادات كلها. والإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. والإحسان وهو أن يعبد الإنسان ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

 

وسائر ما أمر الله به ورسوله من الأمور الباطنة والظاهرة أي إخلاص الدين لله والتوكل عليه. والرجاء لرحمته والخشية من عذابه والصبر لحكمه والتسليم لأمره.

 

وكلها من الأمور التي تلمح فيها مدى قوة البواعث من على الأعمال. ثم يقرن ابن تيمية بين العبادات وغيرها من أنواع السلوك التي تعد أقرب إلى محيط الأخلاق.

 

ولكن الاقتران يدلنا على أنه لا يفرق بينها وبن أعمال العبادات لأن قواعد الأخلاق في الإسلام لا يمكن فصلها عن أصوله. أنه بعد سرد تفاصيل أعمال العبادات على سبيل الحصر. يأتي بغيرها من الأعمال بقوله: (ومثل صدق الحديث. والوفاء بالعهود وأداء الأمانات إلى أهلها. وبر الوالدين. وصلة الأرحام. والتعاون على البر والتقوى. والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة والسلوك. والعدل في المقال والفعال).

 

وهكذا يضم ابن تيمية هذا كله تحت اسم ((المعروف)) المأمور به. ويبدو أنه بعد ما ورد في آخر عبارته من قبيل أخلاق الكافة التي ينبغي عليهم التقيد بها. ثم يذكر بعد ذلك ما يرتقي بالإنسان إلى مكارم الأخلاق الندوب إليها. مثل (أن تصل من قطعك. وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك) قال الله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور ﴾ [الشورى: 40 – 43] [1].

 

يفهم من الآية أن محاسن الأخلاق تقتضي (أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيادة له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال. وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض) ويعتبر أن بعض هذا واجب وبعضه مستحب[2].

 

أما الخلق العظيم – الذي وصف به الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه يعني (الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقًا) وهو أيضا ما عبرت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها: ((كان خلقه القرآن)). حقيقة ذلك (امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر)[3].

 

ويتضح لنا بدليل آخر فهم ابن تيمية لشمول دائرة الإسلام جوانب العقائد والعبادات والأخلاق أيضًا لأن بيان ما تقدم كله يدخل تحت الأمر بتقوى الله. فإن تقوى الله تجمع (فكل ما أمر الله به إيجابًا واستحبابًا وما نهى عنه تحريمًا وتنزيهًا. وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد)[4].

 

ومضى شارحًا ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا لما بعثه إلى اليمن ((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) فقد تضمن هذا الحديث حق الله من عمل الصالح وإصلاح الفاسد. وحق الناس وهو أن يخالقهم بخلق حسن))[5] وتقوى الله تشمل هذا كله لأن التقوى هي (فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه[6] والتقوى أيضًا هي الدين كله (لكن ينبوع الخير وأصله إخلاص العبد لربه عباد. واستعانة كما في قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5][7].

 

إن إخلاص العبد لربه عبادة وعملًا هو ينبوع الخير فما هي أعمال الخير؟

يورد ابن تيمية حديثًا ورد على لسان موسى عليه السلام: “قال موسى: يا رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدل على هدى أو ترده عن ردى. قال: أي عبادك أحلم؟ قال: الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه”” (فذكر في الحديث الحب والعلم والعدل. وذلك جماع الخير)[8].

 

أما تفصيل ذلك فيأتي على الترتيب الآتي:

إنه يعني بالمحبة أن يكون القلب محبًا لله وحده مخلصًا له الدين. ويضرب مثلًا على ذلك بيوسف عليه السلام الذي كان محبًا لله مخلصًا له فوصفه تعالى بقوله ﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24] بعكس امرأة العزيز التي كانت مشركة فابتليت بالعشق. ولا يبتلى به أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه. ولكن القلب المنيب إلى الله الخائف منه يصرف عنه محبته إلى غيره. ويدفعه فعل الطاعة محبة لله وخوفًا منه – ولما كان الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية – فإن المؤمن كلما فعل الطاعة وترك المعاصي. قوي حبه لله وخوفه منه “فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره”[9] وقد بين الله أن محبته توجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31] فالاتباع والتقيد بقواعد الشرع. بعكس الذين زعموا محبة الله ولم يتقيدوا بشريعته.

 

إذ قالت اليهود والنصارى: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18] وهذا ادعاء للمحبة دون دليل مع ما فيه من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية.

 

ولهذا قرن الله الخشية بها في قوله تعالى: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ﴾ [ق: 32 – 34].

 

والعلم أيضًا أحد البواعث على فعل الخير. والعلم النافع هو أصل الهدى الذي يؤدي إلى الحق وهو الرشاد ومصدر الضلال العمل بغير علم كما أن سبب اتباع الهوى هو الغي قال تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم: 1، 2] وكان معاذ بن جبل يرشد إلى طلب العلم والحث عليه.

 

قال: (عليكم بالعلم. فإن طلبه لله عبادة. ومعرفته خشية. والبحت عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة. ومذاكرته تسبيح به يعرف الله ويعبده وبه يمجد ويحد.

 

يرفع الله بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم. وينتهون إلى رأيهم) ولذا فإن ابن تيمية يذهب إلى أن الدين كله هو علم بالحق وعمل به[10].

 

أما عن العدل كأساس لكل خير. فإن من رأي الشيخ السلفي أن صلاح حال الانسان في العدل وإن فساده في الظلم[11]. وتتضح ضرورة إقامة العدل والحكم به من قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].

 

(فذكر الله أنه أنزل الكتاب والميزان وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط. ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر)[12].

 

كما حرم الله البغي بغير الحق. فالعدل أساس استقامة أمور الناس وإن اشتركوا في أنواع من الإثم. ولا تستقيم أمورهم مع الظلم في الحقوق. وإن لم يشتركوا في الاثم، ولهذا قيل: (إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة)[13]، وقد جاء الحديث أيضًا محرمًا الظلم. إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم) فبين الحديث أن الباغي والظالم يصرعان في الدنيا بالرغم من احتمال أن يصبحا مرحومين في الآخرة.

 

والنفس الانسانية فيها داعي الظلم لغيرها بواسطة العلو عليه. والحسد له والتعدي عليه في حقوقه كما أنها تظلم نفسها (بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث)[14].

 

ولهذا شرع الأمر بالعروف والنهي عن المنكر لتضييق الخناق على الأعمال الناجمة عن ظلم الناس بعضهم لبعض. وظلمهم لأنفسهم بفعل المنكرات. ويؤمر بما فيه من داعي الخير الذي يدعوه إلى العلم والصدق وأداء الأمانة، وأن يقابل السيئات بضدها من الحسنات (كما يقابل الطبيب المرض بضده فيؤمر بأن يصلح نفسه. وذلك بشيئين: فعل الحسنات وترك السيئات)[15].

 

انتهى بحمد الله تعالى.

 


[1] المصدر نفسه ص 234.

[2] ابن تيمية: مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 ص 316- 317.

[3] ابن تيمية: مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 ص234.

[4] المصدر نفسه ص 234- 235.

[5] المصدر نفسه ص 234.

[6] المصدر نفسه ص 310.

[7] المصدر نفسه ص 235.

[8] التحفة العراقية في الأعمال القلبية ص 85.

[9] أمراض القلوب وشفاؤها ص 31.

[10] المصدر نفسه ص 58.

[11] أمراض القلوب وشفاوها ص 31.

[12] التحفة العراقية ص 42.

[13] الحسبة ص 86.

[14] نفس المصدر والصفحة.

[15] نفس المصدر ص 92.

قد يعجبك ايضا